للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كثير من الأحاديث التي تصور رسول الله صلى الله عليه وسلم يملي القرآن على كتاب الوحي، ويوقفهم على ترتيب الآيات١، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قرأ سورا عديدة بترتيب آياتها في الصلاة أو في خطبة الجمعة بمشهد من الصحابة، فكان ذلك دليلا صريحا على "أن ترتيب آياتها توقيفي، وما كان الصحابة ليرتبوا ترتيبا سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على خلافه، فبلغ ذلك مبلغ التواتر"٢.

وأما ترتيب السور فتوقيفي أيضا، وقد علم في حياته صلى الله عليه وسلم، وهو يشمل السور القرآنية جميعا، ولسنا نملك دليلا على العكس، فلا مسوغ للرأي القائل: إن ترتيب السور اجتهادي من الصحابة، ولا للرأي الآخر الذي يفصل: فمن السور ما كان ترتيبه اجتهاديا، ومنه ما كان توقيفيًا.

وإذن، فقول الزركشي: "وترتيب بعضها ليس هو أمرا أوجبه الله، بل أمر راجع إلى اجتهادهم واختيارهم, ولهذا كان لكل مصحف ترتيب"٣ لا ينبغي أن يسلم على علاته، لأن اجتهاد الصحابة في ترتيب مصاحفهم الخاصة كان اختيارا شخصيًا لم يحاولوا أن يلزموا به أحدا، ولم يدعوا أن مخالفته محرمة، إذ لم يكتبوا تلك المصاحف للناس وإنما كتبوها لأنفسهم, حتى إذا اجتمعت الأمة على ترتيب عثمان أخذوا به وتركوا مصاحفهم الفردية، ولو أنهم كانوا يعتقدون أن الأمر مفوض إلى اجتهادهم، موكول إلى اختيارهم، لاستمسكوا بترتيب مصاحفهم، ولم يأخذوا بترتيب عثمان. ثم إن الزركشي نفسه يرى أن "الخلاف يرجع إلى اللفظ" بين القائلين بالتوقيف والقائلين بالاجتهاد في ترتيب السور، ويتستدل على ذلك بقول الإمام مالك: "إنما ألفوا القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبي صلى الله عليه وسلم، مع


١ انظر على سبيل المثال صحيح البخاري: كتاب تفسير القرآن الباب الثامن عشر, وكتاب الأحكام الباب السابع والتسعون, ومسند الإمام أحمد ٣/ ١٢٠ و٤/ ٣٨١.
٢ الإتقان ١/ ١٠٥.
٣ البرهان ١/ ٢٦٢.

<<  <   >  >>