يوحي بدلالة. وقد لا يكون أصحابه أقدر المواهب الشعرية العربية، لكنهم بلا شك أعلى الشعراء صوتًا وأكثرهم شغبًا على من يساندهم من النقاد ومن لا يسير على نهجهم من العراء، وهكذا غطوا على أصوات أكثر اعتدالًا وأسمى موهبة حتي بدا أن اتجاههم أصبح يمثل التيار الرئيس للشعر العربي المعاصر. وبدأ محبو الشعر يحسون من جديد بشيء غير قليل من الغربة أمام نماذج ذلك الشعر الذي قلت فيه الرموز المشتركة بينهم وبين مبدعيه. فالتجربة المستمدة من العقل الباطن قد يكون لها رموزها الإنسانية العامة، لكن لها مع ذلك رموزها الشخصية الخاصة بالنابعة من الطفولة والنشأة والبيئة. وتظل تلك الرموز الشخصية عالمًا مغلقًا يعز فهمه حتى على الشاعر نفسه كما يعز تفسير الأحلام. ويزيد الغموض انغلاقا بما يقصده إليه الشعراء من إسراف في تفكك العبارة والنقلات السريعة من خاطرة إلى خاطرة، وما أشرنا إليه من استخدام الألفاظ بمدلولات بعيدة لا تجيء من طبيعة الأصالة والابتكار بمقدار ما تأتي من الاعتقاد بأن الغموض قرين العمل وأن الوضوح نظير السطحية في كل الأحوال.
وبدأ المتلقون والمبدعون يتبادلون الاتهام. المتلقون يرمون الشعراء بأنهم يتجاهلون هموم العصر وقضايا الحياة ويقصدون قصدًا إلى الحذلقة ويتعالون على الناس. والشعراء يتهمون القراء بالتخلف والعجز عن مسايرة "الحداثة" ويحتجون بأنهم لا يمكن أن يفرضوا على مواهبهم "الذوق العام" الذي يلتمس في الشعر معاني واضحة ومعجمًا مألوفًا وصورًا مكررة. وهم في كلامهم عن "الحداثة" يصورونها كأنها "مذهب" أدبي خاص كالواقعية، والوجدانية أو الرمزية على حين أنها في الحقيقة ليست مذهبًا في الأدب بل هي صفة للأدب.