من غموض وتفكك. ولا شك أن بعض هؤلاء المجربين من ذوي المواهب والثقافة يدركون حقيقة ما يصنعون، لكن كثيرًا منهم أيضًا شعراء غير موهوبين يسيرون في ركاب ذلك الاتجاه على غير هدى ويغطون عجز الموهبة وقلة الثقافة بما يبدو أنه تجريب وتجديد، وهو في الحقيقة عبث لغوي وأسلوبي يباعد بين الشعراء والمتلقين. فليس من اليسير أن يخرج الشاعر على قوانين اللغة وأعرافها ويقدمها إلى الناس في شكل جديد، إلا إذا أوتي الموهبة القادرة والمعرفة الواسعة بالتراث والسيطرة الكاملة على اللغة في ألفاظها وأساليبها وإيقاعها، مع إدراك لطبيعة العصر الذي يعيش فيه، وقدرات قراء شعره وأذواقهم وما يلتمسون في الشعر من متعة ومعرفة.
ومن الإنصاف لشعراء هذا الاتجاه أن نذكر أنهم ليسوا بدعًا في الشعر العالمي الحديث، وإن ما يجري في الوطن العربي من نزوع إلى التجريب والتجديد له نظائر كثيرة في الشعر الغربي، وأن بعض الاتجاهات العربية الحديثة قد تأثرت في نشأتها بنظريات ونماذج غربية أو بشعراء كبار في الوطن العربي، صادفت تلك النظريات والنماذج هوى في نفوسهم ثم انتقلت على أيديهم إلى تلاميذهم ومريديهم من الشباب. على أن أمر التجديد في الغرب والوطن العربي يختلف في ظروفه الفكرية والحضارية، وفي طبيعة من يتلقى ذلك التجديد هنا وهناك.
فالحضارة الغربية -على حداثتها- قد مرت خلال ما لا يزيد على خمسة قرون بمراحل حضارية مختلفة اختلافًا شاملًا وحاسمًا فأصبح لكل مرحلة "مذهبها" الأدبي المتميز الذي يعبر عن طبيعتها ويرضي حاجتها الفنية والفكرية، من "كلاسيكية" جديدة إلى "رومانسية" ثم "واقعية" إلى رمز وتجريد غير ذلك. وأدرك المتلقون سنة التجدد والتحول، وتشكلت أذواق كل عصر حسب طبيعته.