الحضارية فلم يعد ممكنا أن "تتعايش" تلك المذاهب الأدبية الكبرى في عصر واحد، فإذا دخل الأدب عصر الرومانسية لم يعد مقبولا أن يكتب الأديب أدبًا كلاسيكيا، وإذا انقضت الرومانسية ونشأت الواقعية لم يعد للومانسية مكان في العصر الجديد.
ولكثرة ما يطرأ على المجتمع الغربي من تحولات حضارية وما يصاحبها من تجديد في جميع وجوه الحياة ومن بينها الأدب، أصبح التجديد والتجريب شيئًا مألوفًا عند المبدع والمتلقي على السواء، حتى انتهى إلى ما يشبه الترف الفني الذي يغدو معه البحث عن أشكال جديدة مقصودًا لذاته في بعض الأحيان، ولا بأس أن يظهر لديهم من حين إلى آخر اتجاه جديد في المسرحية أو الرواية أو الشعر يستقبله الناس بترحاب وحسن ظن. ثم ما يلبث أن ينقضي بعد حين ويظل هناك تيار رئيس سائد يمثل طبيعة العصر العامة وفهم جمهور الأدب لطبيعة الأدب وغايته.
أما الوطن العربي فإنه -برغم ما طرأ عليه من تحولات حديثة كبيرة- لم يمر بعد بتلك النقلات الحضارية الشاملة والحاسمة التي تستدعي مذهبًا أدبيًّا سائدًا له تميزه الواضح في النظرية والتطبيق، ولم يألف بعد تلك المحاولات التجريبية الفرعية التي لا يجد الناس بأسًا من استقبالها بشيء من حسن الظن ويتركون مصير بقائها أو زوالها للممارسة والزمن، لذلك تبدو دعوى أصحاب شعر "الحداثة" بأنهم وحدهم يمثلون حداثة العصر الشعرية وأن رواد الشعر الحر قد أصبحوا عند القارئ العصري مجرد تراث، ولم يمض على ظهورهم أكثر من خمسين عامًا، وأن من تلا ذلك الجيل الرائد يقفون في برزخ بين العتيق والحداثة، دعوى فيها كثير من الإسراف والغرور وتجاهل طبيعة المجتمع وأذواق محبي الشعر. وهي حين تغطي -من خلال الصخب والحركة الدائبة التي يتسم