ولكن رب ضارة نافعة، فقد كانت هذه البداية البائسة عهدًا مباركًا بالنسبة لي أنا بالذات، فقد أدخلني والدي ـ يرحمه الله ـ وأنا في حوالي السادسة أو السابعة المدرسة، وصدق القائل: إن مصائب قوم عند قوم فوائد، فقد بدأت صحبتي مع الحرف.. مع كل ما يحيط بحياتي من جفاف شديد، واجهته منذ تلك السن المبكرة. ولكن والدتي ـ يرحمها الله ـ كانت تحرص على أن أتعلم رغم غرامي باللهو، والإهمال، وما كنت أمنيها به من خسائر تتمثل في ضياع الدفاتر والكتب والحذاء، والإحرام.. الذي كان يستعمل للوقاية من الشمس.
وكان إذا تيسر لها أن تمر عليَّ خلال "الفسحة الكبيرة" تتحفني بقرش كبير في استدارة القمر، ليلة أربعة عشرة، وكان هذا بالنسبة لي يشكل ثروة هائلة، دونها ميزانية الولايات المتحدة الأمريكية! وقد ظلت على حرصها هذا إلى أن أصبحت على أبواب الشباب، وعلى أبواب المعهد، وكان الإجهاد قد نال منها كل منال، فقد تضافرت عليها الأحداث والأمراض وحياة الجفاف، فلم يكن في وسعها أن تستمر في الكفاح، فحملت عنها العبء قبل أن أكمل السنة الدراسية النهائية في المعهد، فاستقبلت حياة العمل مدرسًا، وإن ظللت على دراستي بالمنزل حتى حصلت على شهادة المعهد العلمي السعودي، وبذلك قرت عينها، وانتهت متاعب العيش.
كنت أعدها مرجعًا في تاريخ جدة، فهي تعرف بيوتها وتعرف حاراتها، وتعرف مشاهير أهلها، فتعرف -مثلًا- أن حمزة شحاته -يرحمه الله- كان