للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يتجاوزوا سن الرضاع في بلدان صغيرة نائية لا تعرف الطب والأطباء، واغتربت عن بلدها ووالدها في رحلات متعددة، وعاشت في بلدان أشبه بالقرى، تقل فيها وسائل الراحة، ثم تعرضت للفقر والحاجة، وتحملت شظف العيش، وسكنت بمكة في بيوت خربة، لم تجد أمامها غيرها، وكانت عرضة أن تنقض علينا في أية لحظة، وكانت الأمطار عنصرًا مروِّعًا لنا، بل كنا نضطر إذا اشتد هطولها إلى الهجرة إلى دور بعض معارفنا حتى تنقشع الأمطار. ونالت منها الأمراض نيلًا غير يسير، واضطرت أن تعكف هي وابنتها الكبرى على ماكينة الخياطة، وعلى "المنسج" لحياكة الملابس وما إليها، لتأمين حياة الأسرة التي كنت أنا رجلها الوحيد قبل أن أبلغ مرحلة الشاب.

احتملت كل ذلك بصبر وإيمان وعزيمة، وكان إيمانها بالله عظيمًا، كان تدينها وحرصها على فروضها منذ شبابها، يعينها على ذلك الاحتمال العجيب!

إنني لا أكتب عن امرأة مثالية، ولكني أكتب عن "أمي"، هذه اللفظة الساحرة التي لم أعد أجد لها مكانًا في حياتي إلا الذكرى، وإلا نفثات تعتادني الحين بعد الحين.

أمي.. إنني أحاول أن أكتب عنكِ كلمة رثاء، ولكنك أخذتني برفقك المعهود إلى عالم الذكريات، فدخلته برفق أيضًا، وأنا أشفق على قرائي من أن أقحمهم في أمر لا يعنيهم، إلا بقدر ما يعني الصديق أمر الصديق، فيصغي إلى ثرثرته.

وماذا عسى أن أقول في رثائك؟ لم أشعر بالكلمات تخذلني قط كما أحس بها اليوم، إنها تتفلت مني تمامًا، كما كانت تتفلت مني كلما وقفت أمامك وأنا ألتمس كلمة اعتذار.

<<  <   >  >>