للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

محمدٌ صلى الله عليه وسلم متواضعاً

كان صلى الله عليه وسلم عجيباً في ذلك، فتواضعه تواضع من عرف ربه؛ فهابه، واستحيا منه، وعظمه، وقدره حق قدره، واطمأن له، وعرف حقارة الجاه والمال والمنصب، فسافرت روحه إلى الله، وهاجرت نفسه إلى الدار الآخرة، فما عاد يعجبه شيءٌ مما يعجب أهل الدنيا، فصار عبداً لربه بحق، يتواضع للمؤمنين، يقف مع العجوز، يزور المريض، يعطف على المسكين، يصل البائس، يواسي المستضعفين، يداعب الأطفال، يمازح الأهل، يكلم الأمة، يواكل الجميع، يجلس على التراب، ينام على الثرى، يفترش الرمل، يتوسد الحصير، قد رضي عن ربه فما طمع في شهرةٍ، أو منزلةٍ، أو مطلبٍ أرضي، أو مكسبٍ دنيوي.

يخاطب الغريب بود، يتألف الناس، يبتسم في وجوه أصحابه، يقول: {إنما أنا عبدٌ آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد} ولما رآه رجلٌ ارتجف من هيبته فقال: {هون عليك، فأنا ابن امرأةٍ كانت تأكل القديد بـ مكة}.

وكان يكره المدح وينهى عن إطرائه ويقول: {لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله} وكان ينهى أن يُقام له، وأن يوقف على رأسه، وكان يجلس حيث انتهى به المجلس، وكان يختلط بالناس كأنه أحدهم، ويجيب الدعوة ويقول: {لو دعيت إلى كراعٍ لأجبت، ولو أهدي إلي كراعُ لقبلت} وكان يحب المساكين، ويروى عنه: {اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين} وكان يحرم الكبر، ويبغض أهله، ويقول: {يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر، يغشاهم الذل من كل مكان} ويروي عن ربه أنه قال: {الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما عذبته}.

فكان صلى الله عليه وسلم محبباً إلى القلوب، تأخذه الجارية بيده فيذهب معها، يزور أم أيمن وهي مولاة، ولما مدحه وفد عامر بن صعصعة وقالوا: أنت خيرنا وأفضلنا، وسيدنا، وابن سيدنا، قال لهم: {يا أيها الناس! قولوا بقولكم أو ببعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان} وغضب لما قال له رجل: {ما شاء الله وشئت، فقال: ويحك أجعلتني لله نداً، بل ما شاء الله وحده} وكان يحمل حاجة أهله، ويخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويكنس بيته، ويحلب شاته، ويقطع اللحم مع أهله، ويقرب الطعام لضيفه، ويباسط زواره، ويسأل عن أخبارهم، ويتناوب ركوب الراحلة مع رفيقه، ويلبس الصوف، ويأكل الشعير، وربما مشى حافياً، وينام في المسجد، ويركب الحمار، ويردف على الدابة، ويعاون الضعيف، ويتفقد السرية، ويكون في آخرهم، فيساعد من احتاج، ويرافق الوحيد منهم، فصلى الله عليه وسلم ما تحرك بذكره اللسان، وسارت بأخباره الركبان، وردد حديثه الإنس والجان.

<<  <  ج: ص:  >  >>