[الأئمة الكبار]
ومن الأئمة الكبار أبو إسحاق الشيرازي، الفقيه الشافعي، صاحب المؤلفات الذائعة الشائعة الماتعة النافعة، كان يكرر درسه -كما سلف- مراتٍ كثيرة، يقول فيه الشاعر:
تراه من الذكاء نحيل جسمٍ عليه من توقده دليلُ
إذا كان الفتى ضخم المعالي فليس يضيره الجسم النحيلُ
ومن الفلاسفة الأذكياء وأهل المنطق والأطباء، ابن سيناء الرئيس الرئيس؛ فإنه برع في فنونه، وسهر الليالي في مذهبه، وجدَّ وحصَّل، وثابر وواصل حتى صار يُضرب بهمته المثل، وكان يكتب كل يومٍ كراسة، وصار أعجوبة الأعاجيب في تخصصه، وأحد أذكياء العالم على فسادٍ في مذهبه.
والفارابي الفيلسوف كان بِزي جندي، انصب وانكب على كتب اليونان حتى رسخ فيها، وأدمن النظر في ضوابطها، حتى أتقنها وصار من أكبر الفلاسفة لصبره وهمته وجلده فيما توجه له من مذهب، على رغم تحفظنا من مذهبه.
والفخر الرازي صاحب التفسير جمع فأوعى، وصنف وألف، ودرس ووعظ، وخطب وكتب، وصار عين زمانه، وقريع دهريه، في بهجة من الأبهة والفخامة الدنيوية، والثراء الفاحش، والله الموعد.
ومن العلماء الربانيين الإمام النووي، مات في سن الأربعين، لكنه ترك علماً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وحسبك بـ رياض الصالحين، هذا الإمام وصل ليله بالنهار، وصام وقام، وسطع ولمع، وجمع العلم، وهجر الكرى، وجد في السُرى، حتى اعتزل الزواج ليتفرغ للعلم فأتى فيه بالعجب العجاب.
وشيخ الإسلام، وعلم الأعلام ابن تيمية، سيد العلماء، وكبير الفقهاء، جد في الطلب، فحاز الرتب، حقق، ودقق، ودرس، وخطب، وأفلح حتى صار مجدد قرنه، ومصلح زمانه، وترك من التأليف ما يفوق الوصف، براعةً وحسناً وأصالةً وعمقاً، فهو حقيقةً مضرب المثل للعالم الرباني، العامل بعلمه، زهداً وخشيةً وإنابةً وجهاداً وصدقاً وتواضعاً وكرماً وشجاعةً وإمامة، وما حصل له هذا الفضل إلا بفتح الله وكرمه، بعد صبرٍ وجلد، وسهرٍ وتعب، ومشقةٍ ونصب؛ لأنه كان ذا همةٍ عارمة لا تقبل الأدنى، وعزيمة صارمة لا ترضى بالدون، فبز علماء عصره، وصار المرجعية الكبرى للفتيا، فهو قصة سارت بها الركبان، وأعجوبةً قل أن يرى مثلها الزمان.
وتلميذه ابن القيم: صاحب التصنيف المبارك البديع، الذي استفاد منه الموافق والمخالف، مع حسن لفظ، وبراعة إنشاء، وقوة حجة، وصحة برهان، ورسوخ علم، وعمق فهم، وكان في نفسه ذاكراً، شاكراً، صابراً، صواماً، قواماً، عابداً، زاهداً.
وابن رجب الحافظ المجتهد، كتبه خير شاهدٍ على علمه وفهمه وتبحره، وله جهدٌ مباركٌ مشكور في شرح الأحاديث، وإخراج كنوز الآثار، بل لا أعلم عالماً له من البراعة في الشرح مثل ما لهذا العالم الكبير.
ومنهم حافظ الدنيا في زمانه ابن حجر، صاحب فتح الباري الذي شرح فيه صحيح البخاري، فقد دبجه في خمس وعشرين سنة، وصنف المقدمة في سبع سنوات، فأتى بما يذهل العقول، ويدهش الألباب، مع عشراتٍ من المجلدات غير ذلك.
وكان دائم التحصيل والتأليف والتدريس، لا يكل، ولا يمل، ولا يفتر، ولا يسأم، ولا يضجر، حتى أصبح خاتمة الحفاظ، وسيد الجهابذة، وشيخ المحدثين، ومن شاء أن يعرف هذا الرجل فلينظر في الفتح، فلا هجرة بعد الفتح.
ومنهم السيوطي جامع الفنون، وحائز قصب السبق في التأليف والتصنيف، وقد اعتزل في الأربعين، وترك تراثاً ضخماً من المؤلفات النافعة الذائعة.
وقبلهم ابن الجوزي واعظ الدنيا، أكبر مؤلفٍ في كثرة ما أُلف، فقد ألف قرابة ألف مصنف ما بين كتابٍ ورسالة، وشغل وقته بطلب العلم، والحفظ، والتفقه، والتصنيف، والتدريس، والوعظ، حتى أصبح حديث الركبان، وقصة الزمن، وأعجوبة الدهر، فصاحةً ونباهةً وعلواً وخطراً.
ومن أهل الهمم القوية، والعزائم المرضية، السلطان نور الدين محمود زنكي، الإمام العادل، الخاشع العابد الزاهد المجاهد الصوام القوام الذاكر الشاكر، الصابر الشهيد الفريد، صاحب الرأي السديد، والنهج الرشيد، عدل في الرعية، وحكم بالسوية، وهجر الدنيا الدنية، ورزقه الله الشهادة بعد عمرٍ حافلٍ بالصالحات والخيرات.
ومنهم صلاح الدين الكردي الأيوبي فاتح القدس، وهازم الصليب، وناصر الملة، ومقيم العدل، مع تقوى وديانة، وخشية وأمانة، رفعه الله بالإخلاص، ونصره بالصدق، وفتح عليه في الجهاد، دوخ الأعداء، ونشر الملة السمحاء، وجد في طلب العلياء، ومثلهم مضى القادة من الفاتحين، الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، بجمعهم الهمة والصبر مع صدق العزيمة، وقوة الإرادة، وسمو القدر.