[وقفة مع أبي حنيفة]
أبو حنيفة: الملة حنيفية، والفقه حنفي، والحلم أحنفي، ثبتت قدمه في النعيم؛ لأنه النعمان بن ثابت:
أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره كما المسك ما كررته يتضوعُ
أثبت بالبرهان أن الموالي يفقهون عن الوالي، أخبر العرب أن العجم يفهمون اللسان، ونقل للعجم أن العرب أهل إحسان {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة:٣]
تحرر من الرق بجودة عقله، فقيد لرفضه القضاء وأهله، كان أبوه أجيراً فشرب هو من عين العلم ففجرها تفجيراً، بائع بزٍ لا يؤمن بابتزاز المال من غير حله، الناس عيالٌ في الفقه عليه، والفقهاء إذا أعضلوا عادوا إليه، أبحر في محيط الشريعة فما عاد إلا بدرر، أدلى عليه التوفيق دلوه ثم نادى يا بشرى هذا غلام، يحدث بالرأي يوم لا حديث، ويفتي بالحديث يوم لا رأي.
أصاب كثيراً فنسب أصحابه كل صواب إليه، وأخطأ قليلاً فألحق أعداؤه كل خطأ عليه، وهو رجل الصواب وليس بمعصوم، وقد يخطئ وليس بمذموم.
أتباعه يدعونه بالإمام الأعظم، والفقيه الملهم، والعجم ينادونه: (مولانا شيخ أكبر عالم فقيهان) وخصومه يصفونه بضحالة الدليل وفقر البرهان، إن أفتى قال أصحابه: لا مساس، حضره القياس، وصاح شانئوه ما لهذا من أساس؟
قلنا لمحبيه: شيخكم إمام من الأئمة فقالوا: لا يكفي هذا بل هو سراج الأمة، شابت ذوائبه فشب عقله، وذبلت نفسه فاتقد ذهنه، إن فقد دليله أنقذه بحيلة، الرجل عظيم والحق أعظم منه، تبطن الفقه فظهر على لسانه الاستنباط، وتوشح الفقه فاهتز منه النياط.
أحبه الهنود، وعجب منه الأفغان، وارتاح لرأيه الأتراك، وأنس به التركمان، ورضي مذهبه الأكراد، وشكره العرب، وإن لم تكن هذه العبقرية فلا ندري ما هي!
أبو حنيفة عند الأحناف آية محكمة عند المحدثين لا بأس به عند أهل المذاهب الضالة لا بد أن يُتثبت من أمره؛ لكن بائع البز يشرح كلامه في الحرمين، ويدرس رأيه في الأزهر، ويذكر قوله في الزيتونة، ويدعى له في الأندلس، أخذنا من سيرته أن السادة بلا فهمٍ بهم، وأن الموالي بالعلم في العوالي، إذا فتشوا كتاب الأثر فتح عليهم دماغه فأخرج الحجة بيضاء من غير سوء آية أخرى.
روى أحاديث فأشاد به الطحاوي والزيلعي، وتكلم بالرأي فأعجب به الزمخشري وعبد الجبار، وغاص في الفقه فهب إليه محمد بن الحسن وأبو يوسف.
ولد في الكوفة، وتلاميذه في بغداد، ومخطوطاته في القاهرة، ورسائله في قرطبة، نقده الخطيب فعاد بـ التأنيب، عجب من حجته مالك، وأشاد بفهمه الشافعي فاستشهدوا شاهدين من رجالكم.
إذا اشتهر الرجل وذاع فضله أصبح كالبحر يغرق سابحه، ويبتلع من ولجه، ويحمل من ركبه، وكذلك هو أبو حنيفة.