وقد تبين لي بعد النظر في ألفاظ هذه الأحاديث المختلفة، وتتبع طرقها ورواياتها، وأقوال العلماء ومذاهبهم فيها؛ أنه لا تعارض بين هذه الأحاديث ولا اختلاف. وذلك لأمور:
١- أن حديث عمر بن الخطاب جاء فيه لفظ "ليتوضأ" وهذا يدل على الأمر، والأمر يدل على الوجوب إذا كان أمرا خالصاً جازماً لا ينصرف بصارف، وقد انصرف الأمر في هذا الحديث عن الوجوب بقرائن:
أ- ورد في بعض رواياته لفظ يدل على الاختيار فإن شاء توضأ وإن شاء لم يتوضأ، وهو ما رواه ابن خزيمة، وقد تقدم ذكره.
ب- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد بين متى يجب الوضوء وذلك بقوله:" إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة"(١) .
وبذلك يكون الوضوء لغير الصلاة ليس مأموراً به أمر إيجاب.
٢- أن حديث عائشة، على افتراض صحته، فإنما نفى مس الماء في الغسل، وأما الوضوء فورد في نفس الحديث بلفظ آخر أنه توضأ، وذلك في رواية أحمد "كان يجنب من الليل ثم يتوضأ وضوءه للصلاة حتى يصبح ولا يمس ماء" وهذه رواية صريحة تجمع بين الوضوء ونفي مس الماء، فدل على أن نفي مس الماء إنما يراد به نفي الغسل.
٣- أما حديث علي بن أبي طالب فقد بينت ضعفه، وعلى افتراض صحته: فإن الجنب وإن توضأ فلا ينصرف عنه وصف الجنابة، بدليل أنه لا يقرأ القرآن ولا يمس المصحف، فإذا كانت الملائكة لا تدخل بيتاً فيه جنب؛ فإن الرجل وإن توضأ فلن تدخل الملائكة بيته، لبقاء الجنابة عليه، وكيف يكون ذلك وقد ثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نام وهو جنب، ولم يغتسل إلا بعد أن استيقظ.
فلذا أقول: إنه لا تعارض بين هذه الأحاديث، فيجوز أن ينام الجنب ويأكل ويشرب ويعاود دون أن يتوضأ، أخذاً بالرخصة، ويجوز له أن يتوضأ - وهو أفضل- للنوم من غير وضوء، فإن اغتسل فهو أفضل من ذلك كله. ... والله أعلم.