يكون صادقًا في انفعاله بها ولا أمينًا في تصويره لها. وإذا تحدث إليك في قصته عن المغامرة التي مر بها أحد أشخاص قصته في عرض البحر وهو لم يسبق له أن ركب البحر, ولا عرف أهواله, فإنه لن يستطيع أن يقدم إليك شيئًا له أهمية. والمسألة لا تقف عند مجرد الخبرة بالأشياء، بل كذلك الخبرة بالأشخاص وطباعها وحقائقها. فالمرأة التي تحاول أن تكتب قصة تصور فيها أمورًا خاصة بالرجال وهي لا تعرف ما يكون بين الرجال في جلساتهم وحياتهم الخاصة؛ لأنها -عمليا- لا تستطيع أن تعرف ذلك، لا يمكن أن تكون لقصتها أهمية؛ لأنها لم تقم على خبرة شخصية عملية صادقة بطبيعة الرجال.
والواقع أن هذا الرأي يتضمن كثيرًا من الحقيقة، ولكنه ليس صحيحًا كل الصحة؛ وذلك أننا نستفيد من تجارب الآخرين أكثر مما نستفيد من تجاربنا، ونحن في قراءتنا نحصل قدرًا من الخبرات هو أضعاف أضعاف ما نحصل بأنفسنا لأنفسنا من خبرات، فحياة الإنسان محدودة بالزمان الذي يستطيع أن يعيشه، ومحددة بالمكان الذي يستطيع أن يعيش ويتحرك فيه. ويتبع ذلك أن تكون خبرة الإنسان الذاتية محدودة بهذين الحدين، ولكن خبرته التي يحصلها من خلال تجارب الآخرين لا تكاد تحدها حدود؛ لأنه يستطيع أن يعرف الكثير عن حياة سكان جزيرة جاوة مثلا، كما يستطيع أن يعرف الكثير عن حياة النحل أو النمل، وكذلك يستطيع أن يدرس شخصية "أوديب" و"أبي نواس" و"هملت" وغيرهم من النماذج البشرية ذات الأهمية. وبعبارة مجملة يستطيع أن يعرف كل شيء دخل في نطاق التاريخ والأسطورة، سواء عن طريق القراءة أو الرواية. وكما تلفت الكاتب القصصي أشياء بعينها في الحياة التي يعيشها ويتخذ منها موقفًا بذاته، ويفلسفها فلسفة خاصة فكذلك تلفته أشياء بذاتها من ذلك الذي يقرأ عنه أو يروى له، فيسقط منها موقفًا بذاته ويفلسفها فلسفة خاصة ويتخذ منها مادة لعمله القصصي, ويحدث هذا بصورة واضحة في القصة التاريخية.
وبهذا المعنى يمكن أن نفهم كيف يشتق الفن القصصي -ككل الفنون الأدبية- مادته من الحياة.