فلسفة الناقد الخاصة التي يتخذ منها معيارًا لقيمة العمل الأدبي لا بد أن تكون فلسفة عقلية فنية في وقت معًا, إذا صح هذا التعبير, أعني أن يدخل الناقد في اعتباره -حين يصدر حكمه- كيف تحققت فكرة القصة -مثلا- تحققًا فنيًّا، فهو عندئذ لا يحكم على صورة العمل الأدبي مستقلة، أو على مضمونه منفصلًا عن صورته "فهذا الانفصال أصبح مقطوعًا بأنه غير قائم"، بل يحكم على العمل الأدبي في مجمله، ومن حيث هو كلٌّ متماسك. يتبع هذا أن الفكرة العظيمة ليس حتمًا أن تظهر في عمل أدبي عظيم؛ لأن عظمة العمل الأدبي لا تستمد من فكرته المجردة، ولكنها كامنة في مجموعه, وليس معنى هذا -من جهة أخرى- أن الإطار الفني هو الذي يجعل للعمل الأدبي قيمة، فكثير من القصص التي لم يخطئ كاتبوها في اتباع الأصول الفنية techniques لكتابة القصة يمكن أن يحكم عليها بأنها قليلة القيمة أو لا قيمة لها على الإطلاق, ولم يرفع من قيمتها مجرد اتباع تلك الأصول. فإذا كنا استبعدنا أن تكون قيمة العمل الأدبي في فكرته، أو أن تكون في اتباعه الأصول الفنية، فأين إذن تكمن القيمة؟ الجواب عن ذلك ليس جديدًا؛ لأننا سنقول: إن القيمة في العمل الأدبي كله.
وهنا تكون أول مرحلة يجتازها الناقد من مراحل عملية النقد هي أن يجيب عن هذا السؤال: هل هذا الذي قرأته أدب أم ليس أدبًا؟ لأنه عند هذه المرحلة يستطيع أن يعفي نفسه من كل المراحل الأخرى حين يقرر أن الشيء الذي قرأه -أو استمع إليه- ليس أدبًا على الإطلاق. فإذا استقر رأيه أن هذا الذي قرأه أدب وليس تاريخًا أو فلسفة أو رياضة، كان عليه أن يحدد أي نوع من الأنواع الأدبية قرأ، رواية أم ملحمة، قصيدة أم قصة قصيرة، مسرحية أم قصة، وهو في تحديد ذلك يأخذ في الحسبان تلك الأصول الفنية المعروفة لكل نوع، التي على أساسها يمكن التفريق بين نوع وآخر. فإذا انتهى إلى أن يقول عن شيء قرأه: إنه أدب وإنه قصيدة غنائية مثلا، كان عليه بعد ذلك أن يقرر ما إذا كان لهذا الأدب أو لهذه القصيدة الغنائية قيمة أو لا قيمة لها. فكونها أدبًا لا يكفي إذن، ولا يعني أن لها قيمة بالضرورة. ألسنا نتساءل دائمًا: ما قيمة هذا العمل الأدبي؟ وقد نجيب بأنه ليس له قيمة أو ليس له قيمة كبيرة. فالقيمة إذن ليست في كون الشيء أدبًا، وإلا عددنا كل ما قيل من أدب قيمًا، وهذا ما لا يمكن أن يوافقنا عليه أحد.
إن لكل عمل فني أصولا موضوعية ينبغي الانتباه إليها، فحقيقة العمل الأدبي من حيث الدوافع إليه ومن حيث مكوناته، حقيقة تخضع للبحث العلمي، ويستطيع علماء النفس أن يساعدوا بدراساتهم التحليلية في الكشف عنها وتحديد سماتها ومعالمها، أما القارئ العادي للأدب فلا يقف ليبحث في شيء من هذا, بل يقف ليواجه العمل الأدبي في صورته الكاملة، فيتمثله كيانًا قائمًا بذاته، تنبثق منه عوامل دفع وجذب كثيرة، تمامًا ككل شخصية. وهو يتمثل ذلك عندما يجد نفسه يقترب من هذا العمل الفني حتى يكاد يحتضنه، أو يبتعد عنه حتى يكاد لا يرى منه شيئًا. ثم هو بعد ذلك يترجم هذا القرب