وهذا البعد إلى لغة الرضاء وعدم الرضاء. أما الناقد فلا يرضى لنفسه أن يقوم بما يمكن أن يقوم به العالم النفسي من تحليلات، ويجعل من هذه التحليلات غايته, وهو كذلك لا يصنع ما يصنعه القارئ حين يصدر حكمه بناء على ما في العمل الأدبي من عوامل جذبته إليه أو نفرته منه، ولكن الناقد بذلك لا يعادي العالم النفسي ولا القارئ العادي، كل ما في الأمر أنه لا يرضى أن يقف عند الغاية التي ينتهي إليها هذا العالم، وهي في مجملها الكشف عن نفسية الشاعر نفسه، وبخاصة حين تعمل، أو حين تبدع، وهو كذلك لا يحب أن يتخذ من ذاته المعيار الذي يحدد الحكم الأخير على العمل الفني، فالناقد تعنيه معرفة خبايا الشاعر. صحيح أن نفس الشاعر هي نقطة البدء، وصحيح أننا لا نرى الأشياء إلا إذا كانت لنا عيون تبصر، ولكن الذي يعني الناقد في المحل الأول هو تلك الأشياء المرئية لا العيون الرائية، هو تلك الأجواء النفسية لا النفس المستبصرة. وكذلك يهتم الناقد أول الأمر بأن يصدر على العمل الأدبي حكمه، ولكنه يتحرك في طريقه إلى هذا الحكم لا من خلال رغباته الخاصة، وغايته الواضحة "فكثيرًا ما تكون طاقة العمل الفني أكبر من ذات الناقد"، بل من خلال بعض الأصول الموضوعية العامة التي تعمل ذاته بكل رغباتها وغاياتها من خلالها.
وما دمت قد وصلت إلى هذا التحديد لضرورة توافر بعض الأصول العامة التي يتحرك الناقد خلالها, فينبغي إذن أن أبادر بتحديد هذه الأصول.
ونستطيع أن نستنبط من المقدمات السابقة أن الناقد حين يواجه أي عمل شعري مثلا, فإنه يفترض منذ البداية أن هناك شاعرًا، وهو بطبيعة الحال لا يعني بالشاعر هنا ذلك الشخص القادر على تنغيم الكلمات، وتدوير المعاني في صورة لفظية موسيقية -كما يقول صديقنا الشاعر صلاح عبد الصبور في إحدى قصائده- بل يقصد بالشاعر هنا "الإنسان" أولا وقبل كل شيء. وواضح أنه ليس من السهل تحديد معنى "الإنسان""في بعض الحالات يختلف معنى الإنسان بين الأفراد كما يختلف مستوى الإنسانية من شخص إلى آخر"، ولكننا جميعًا نعرف -معرفة ما- ما الإنسان. وفي هذا الأصل يكفي أن يتمثل لنا الإنسان بأي أشكاله وفي أي مستوياته، وعندئذ يكون الأصل الذي لا نختلف عليه هو تمثل ذلك الإنسان في العمل الشعري، ثم نختلف في تقدير هذا الإنسان من حيث النوعية والمستوى. واختلافنا هذا لا يلغي مطلقًا أن عنصرًا أساسيًّا في العمل الفني قد تحقق، ألا وهو الإنسان، فالإنسان هو الشاعر وهو الرسام وهو الموسيقي وهو كل مبدع لأي لون من ألوان الفن.
ولكننا قلنا: إننا لا نريد الإنسان لذاته، ولا نريد أن نتعرف خبايا نفسه؛ لأنها تهمنا بصفة خاصة، ولكننا نريده لكي "يصنع" شيئًا ويصنعه هو بالذات، نريد نفسه وهي