أما الصورة في الشعر الحديث فلها صفات غير ذلك، أو لنقل: إن لها فلسفة جمالية مختلفة، فأبرز ما فيها "الحيوية"، وذلك راجع إلى أنها تتكون تكوّنًا عضويًّا، وليست مجرد حشد مرصوص من العناصر الجامدة. ثم إن الصورة حديثًا تتخذ أداة تعبيرية ولا يلتفت إليها في ذاتها، فالقارئ لا يقف عند مجرد معناها، بل إن هذا المعنى يثير فيه معنى آخر هو ما سمي "معنى المعنى". بعبارة أخرى: أصبح الشاعر يعبر بالصور الكاملة عن المعنى كما كان يعبر باللفظة, وكما كانت اللفظة أداة تعبيرية فقد أصبحت الصورة ذاتها هي الأداة, وكذلك ارتبطت الصورة دائمًا بموقف من الحياة، ودلت على خبرة الشاعر ونظراته الدقيقة إلى دقائق الأمور. بذلك أصبحت الصورة تنقل مشهدًا حيًّا، كما تلخص خبرة وتجربة إنسانية, وهي إن ظلت حسية "لأن الصورة دائمًا لا مفر من أن تستخدم العناصر الحسية"، ما زالت تختلف في معنى الحسية عن الصورة القديمة، فهي لا تختار العناصر الحسية لأنها تبدو في ذاتها جميلة، فجمال العناصر أو قبحها لا يعني شيئًا بالنسبة للشعر الحديث، إذ المهم أن تكون الصورة في مجملها معبرة, ناقلة للمشاعر الصادقة نقلًا مثيرًا.
وأكتفي هنا بأن أقدم نموذجًا للصورة الشعرية الحديثة من قصيدة للشاعرة العراقية "نازك الملائكة" بعنوان "النهر العاشق", وهي قصيدة قيلت وقت فيضان نهر دجلة وإغراقه بغداد. تقول:
أين نعدو وهو قد لف يديه
حول أكتاف المدينة
إنه يعمل في بطء وحزم وسكينة
ساكبًا من شفتيه
قبلا طينية غطت مراعينا الحزينة
فأنت في هذه الصورة تشاهده موقفًا، ولكنه موقف متحرك -إذا أمكن التعبير- وكذلك تحس بالموقف النفسي الذي اتخذته الشاعرة من هذا الفيضان، فقد تمثلت في النهر محبًّا عاشقًا يطوق المدينة بيديه، وينهال عليها لثمًا، ساكبًا طينته فوق المراعي الحزينة. إن فداحة الخطب قد تحولت في نفس الشاعرة الإنسانة إلى موقف تعاطف مع ذلك النهر الوامق القاسي في الوقت نفسه. إن فيضان دجلة قد تجسم للشاعرة في صورة نفسية حية هي صورة العاشق الذي يطوق عنق محبوبته في "قسوة" و"عنف"، ولكن أثر هذه القسوة وذلك العنف لا يعد شيئًا بجانب القبل التي ينهال بها العاشق على محبوبته، فهي تتحمل قسوته في سبيل قبلته، بل إنها لتحب قسوته من أجل حبها قبلته، وكذلك كان فيضان دجلة عنيفًا قاسيًا، ولكن المراعي الحزينة التي طال انتظارها