الهلال يثير في النفس معاني ومشاعر لا حصر لها، يثير فيها مشاعر الطفولة التي تحبو، ويثير فيها معاني الأمل في مستقبل بسام وضيء، ويثير فيها الشعور بتجدد الحياة، وقد يثير فيها الإحساس بالضيعة, وما أشبه، فإذا انتقلت إلى الصورة التي كان من المفروض أنها ستقرب من نفوسنا واحدًا من هذه المشاعر وتحدده لم تجد بين هذه الصورة وأي شعور من تلك المشاعر علاقة، بخاصة حين نتذكر "العنبر" الذي لم يأت به الشاعر في الصورة إلا لأنه أقرب شيء يساوي ويوازي حسيا منطقة السوداء "المضيء" الذي يقرب من اللون البني، والذي يقع في منحنى الهلال. كل هذا يخلص بنا إلى أن الصورة لم تكن لتتجاوز الشكل الخارجي للأشياء، دون تعمق لها من جهة، ودون استغلالها في نقل مشاعر محددة في نفس الشاعر من جهة أخرى. ولعلني لا أغالي إذا قلت: إن الشاعر كثيرًا ما كان يندفع وراء الصور الحسية التي تبدو له غاية في الجمال، ويتغافل عما يمكن أن يكون بين الشعور الذي تثيره، والشعور أو المعنى الذي كان ينبغي عليها أن تنقله إلى القارئ، من علاقة. وأذكر هنا ذلك البيت القديم الذي أراد الشاعر فيه أن يصور فتاة باكية حزينة نادمة فقال:
فأمطرت لؤلؤًا من نرجس، وسقت ... وردًا، وعضت على العناب بالبرد
فجعل اللؤلؤ موازيًا للدموع، والنرجس مقابلًا للعين، والورد للخدود، أما العناب فلأطراف الأصابع، وأما البرد فللأسنان. وأعتقد أن كل ذواقة يحس ما يمكن أن تثيره هذه الصورة في النفس من ألوان المشاعر، لا يمكن -بحال من الأحوال- أن يحس بإحساس تلك الفتاة المسكينة الحزينة الباكية النادمة، فالمطر واللؤلؤ والنرجس والورد والعناب والبرد -وهي جميعًا العناصر التي تكونت منها الصورة- لا يمكن أن تكون أداة لنقل مشاعر الحزن والندم، بل لعلها تثير في النفس مشاعر البهجة والارتياح، أي المشاعر المضادة.
فالصورة الشعرية القديمة إذن صورة حسية حرفية شكلية، وقد استتبع ذلك صفة أخرى جوهرية هي "الجمود"، فلم يكن في الصورة أي خاصة عضوية أو حركية، بل كانت عناصر جامدة.
وكذلك كانت الصورة القديمة "جميلة" دائمًا، ولكنه الجمال الذي يتمثل للحس. وإعجاب الناس بها راجع إلى ذلك الجمال الذي يروع الحواس؛ لأن فهمهم للجمال -كما ذكرت- كان يقف عند هذا المدى.