للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تتحرك بين الأشياء فتكتشف فيها الجوانب الجديدة والعلاقات الجديدة، بل تستكشف حركتها المنظمة المتآلفة، الخافية عن كثير من العيون، وحين تحدث الحركة تقع "الواقعة" لا محالة، فنفس الإنسان في حركتها الدائبة بين الأشياء تقف لتصنع الإطار حول كشفها الذي كشفته، فتبرزه لنا من بين تلك الصور السديمية المختلطة من الحياة. ومرة أخرى قد تختلف حول قيمة هذا الكشف، ولكن هذا الاختلاف لا ينفي الأصل نفسه، وهو أن أي عمل فني لا بد فيه من "الواقعة" التي يبرز لنا من خلالها كشف ذلك الإنسان. ونستطيع هنا -والآن- أن ندرك ما نعنيه عندما نتحدث في بعض الأحيان عما نسميه "التجربة الإنسانية"، فالتجربة الإنسانية -ببساطة- تفاعل بين إنسان وواقعة.

ولكن هل يكفي توافر هذين العنصرين أو الأصلين -الإنسان والواقعة- حتى نقنع بأن ما بأيدينا عمل فني؟ من الواضح أن الإنسان -كل إنسان- يمر في اليوم بوقائع عدة تستوقفه فيضع حولها الإطار الذي يحددها، وينظر فيها نظرته الخاصة، ثم يمضي. وعلى هذا النحو تكون تجربة إنسانية قد تحققت، وبهذا المعنى يكون كل إنسان فنانًا. وهو معنى صحيح إلى حد كبير، ولكن يبدو أن إنتاج العمل الفني لا يكفي فيه أن يتفاعل الإنسان مع الأشياء، وأن ينقل إلينا هذه التجربة، فالتجربة الإنسانية العامة تختلف عن التجربة الإنسانية الماثلة في العمل الفني اختلافًا يسيرًا ولكنه خطير. فلا بد في التجربة الفنية من تحديد "الأبعاد"، فلا يكتفي الفنان بكشف العلاقات السطحية الماثلة، بل يضيف إلى ذلك الغوص في الأعماق، والامتداد مع الجذور المتشعبة المتضاربة، والثقافة هي العامل الأول الذي يرتكز عليه الإنسان في تحديد أبعاد كشفه وارتياده. وتحديد الأبعاد هو في الحقيقة تحديد للدلالة التي استكشفها الفنان خلال العلاقات المختلفة بين الأشياء.

وقد يوجد الإنسان وتوجد الواقعة وتحدد الأبعاد، ومع ذلك لا يتمثل العمل الفني؛ لأن العمل الفني في ذاته وفي الحقيقة "تعبير" عن كائن جديد هو أكثر الأشياء تحققًا في العمل الفني وإن كنا نؤخر الالتفات إليه. فالقصيدة التي أقرؤها -مثلا- ليست إلا تعبيرًا عن إنسان في موقف ذي أبعاد. وفي التعبير يختار الفنان الصورة التي يعبر بها، فيعبر بالقصيدة أو بالقصة أو بالرسم أو بالموسيقى، ولكنه برغم اختلاف وسائل التعبير يحرص في كل حالة على أن يجمع لك العناصر السابقة "الإنسان والواقعة والأبعاد" متشابكة في إطار واحد معبر. وهو لذلك يتناول هذا الإطار بالتعديل من حيث الشكل ومن حيث التركيب، حتى يكون هو التعبير الأوحد عن كل تلك العناصر، الذي لا ينفصل عنها. وهذا ما نعنيه عادة من عبارة "صدق التعبير".

<<  <   >  >>