للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وعلى هذا تكون الأصول العاملة للعمل الفني هي: الإنسان، والواقعة "الموقف الإنساني"، والأبعاد "الدلالة"، والتعبير، وهي الأصول التي يجب أن نطمئن لتوافرها حتى نقول: إن العمل الذي أمامنا عمل فني. وبعد ذلك نختلف في تقدير قيمة هذا العمل الفني فنضيف إلى هذه العناصر أوصافًا، فنقول مثلا: "الواقعة" الحية، "الإنسان" الناضج، "الأبعاد" المحددة، "التعبير" الصادق، وما أشبه ذلك من الصفات، وعندئذ نرفع من قدر هذا العمل الفني. وقد نضيف أوصافًا من نوع آخر فنقول مثلا: "الواقعة" المبتذلة، و"الإنسان" المتخلف، و"الأبعاد" المهوشة، و"التعبير" المفتعل ... إلخ. وعندئذ نحط من قدر هذا العمل, ولا سبيل بعد إلى تحديد الصفات؛ لأنها هي التي تحمل أحكامنا المختلفة، ولكن من السهل كما رأينا -بل من الضروري- أن نحدد الموصوفات.

وقد قلنا: إن الصلة بين الأدب والحياة أمر لازم، ولكن مجرد توافر هذه الصلة لا يكفي حتى يكون هذا الأدب قيمًا. إن العمل الأدبي يكشف لنا عن جانب من جوانب الحياة المتعددة، وهو بذلك يزيد من خبرتنا بها. وفي الوقت الذي يوسع فيه مجال هذه الخبرة إذا هو يعمقها أيضًا. والعمل الأدبي قد يكون وثيق الصلة بالحياة ولكنه يقف منها عند السطح، أو يقف منها عند ما هو مألوف في تجربة الإنسان العادي. وقد يوحي هذا مرة ثانية بأننا نطلب في العمل الأدبي -حتى يكون قيمًا- فكرة أو خبرة جديدة, وعندئذ ترتبط القيمة مرة أخرى بالفكرة أو الخبرة وحدها، وتكون هي العنصر المحدد للقيمة الأدبية. ولكننا نعود لنؤكد أن هذا ليس صحيحًا، فلو كان هدفنا من قراءة العمل الأدبي هو تحصيل قدر جديد من الأفكار الغريبة علينا لكان في قراءة كتب الفلسفة غنى لنا عن كل أدب. فنحن ننشد الجدة والابتكار في العمل الأدبي، في الفكرة والإطار معًا، فالابتكار أساس لقيمة العمل الأدبي. والحق أن كل فكرة تخرج في الإطار الخاص بها، وهي تفرض هذا الإطار على الكاتب منذ بداية تكونها في نفسه؛ فهي لا تكون مستقلة عن الإطار؛ لأنه يتكون معها خطوة خطوة. ومعنى هذا أن الفكرة المبتكرة سترتبط لا محالة بإطار مبتكر. "هذا إذا كانت من الوضوح في ذهن الكاتب بشكل كافٍ" فإذا قلنا: إن القيمة تتحدد في الابتكار كان معنى هذا أننا نقصد الابتكار المتمثل في العمل الأدبي كله. وقد دلت الخبرة على أن أولئك الذين يقلدون في الإطار الفني لا يمكن أن يقدموا أدبًا له قيمة على الإطلاق؛ لأن إطار كل عمل إبداعي أصيل مرتبط بهكل الارتباط كما رأينا. ولا يمكن -تبعًا لذلك- أن نقول: إن الإطار قديم لكن الفكرة جديدة، فيكون الأدب -في هذه الحالة- قيمًا؛ وذلك لأن العمل الأدبي لا يمكن أن يتكون هكذا، فالعمل الأدبي إذن هو العمل الذي يزيد -بأن يوسع ويعمق- من خبرتنا بالحياة. وهذه الخبرة قبل كل شيء خبرة فنية ارتسمت أولًا في وجدان الأديب ثم انتقلت إلى وجداننا.

<<  <   >  >>