للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

نفسه، سيكشف في القصيدة الواحدة في كل مرة من مرات قراءتها تفاصيل جديدة لم يعاينها خلال قراءاته السابقة. ولا حاجة بنا إلى الإشارة إلى مبلغ الضحالة والاختلاط في قراءة قارئ أقل دربة أو غير مدرب.

فالقول: إن نشاط القارئ العقلي هو القصيدة ذاتها، أو العلم الأدبي ذاته، يؤدي إلى نتيجة غير معقولة، هي أن القصيدة لا توجد ما لم يمارسها إنسان، وأنها تخلق من جديد في كل ممارسة، فلن تكون هناك إذن "كوميديا إلهية"١ واحدة، بل كوميديات إلهية بعدد ما يوجد، وما وجد، وما سيوجد من قراء. وبذلك ننتهي إلى الشك والفوضى التامة، ونصل إلى العبارة الرديئة القائلة: لا مشاحة في الذوق٢.

المزاولة النفسية للعمل الأدبي:

فالدراسة النفسية إذن -التي تنظر إلى العمل الأدبي متمثلا خلال العملية العقلية، سواء لدى القارئ أو المستمع، وسواء لدى المتحدث أو المؤلف- تثير من المشكلات أكثر مما تساعد على حل المشكلة الأساسية.

فكلمة "أدب" إذن لا تعني ما هو مكتوب أو منطوق به، ولا ممارسة ما هو مكتوب أو منطوق به.

ولقد تغيرت مفهومات طبيعة الأدب ووظيفته عبر التاريخ, وقد مال البعض في تعريفه للأدب إلى تضييق ميدانه حين نظر إلى بعض الإنتاج الفكري دون بعضه الآخر, وفي الجانب المقابل نجد من يتوسع في معنى الأدب حتى ليدخل في ميدانه الكتابات التشريعية والدينية والطبية, وهذان المفهومان المتطرفان لا يصيبان شيئًا من الحقيقة؛ لأنهما تنقصهما الدقة اللازمة. ويمكن البدء في محاولة تعريف للأدب "إذا نحن نظرنا إلى اعتبارين, فالأدب يتكون من تلك الكتب، وتلك الكتب وحدها، التي لها أولًا وقبل كل شيء -بحكم موضوعها، وطريقة تناول هذا الموضوع- أهمية إنسانية عامة, وهي -بعد ذلك- ينظر إلى عنصر الصورة فيها، والمتعة التي تقدمها الصورة، على أنها جوهرية، فالقطعة الأدبية تختلف -من ناحية- عن بحث متخصص في علم الفلك أو الاقتصاد السياسي أو الفلسفة أو حتى التاريخ؛ لأنها لا تتصل بطبقة خاصة من القراء فقط، بل بالناس من حيث هم ناس، رجالا ونساء. وفي حين نجد موضوع البحث -من ناحية أخرى- يكتفي بأن ينقل المعرفة، إذا بالقطعة الأدبية، سواء أكانت تنقل المعرفة


١ دانتي ليجييري Dante Alighieri "١٢٦٥-١٣٢١ م" كبير شعراء إيطاليا، صاحب ملحمة "الكوميديا الإلهية" Divina commedia "١٣٠٨-١٣٢٠ م".
٢ انظر المرجع السابق ص١٤٦.

<<  <   >  >>