للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وهنا كلمتان:

إحداهما: لولا دعوى أبي حنيفة التغاير لمالت نفسي إلى وجوب صلاة الكسوف، لأن الأحاديث آمرة بها؛ حيث يقول صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم ذلك فصلوا" ١ وظاهر الأمر الوجوب، وعليه دل قول الشافعي رضي الله عنه في "الأم": ولا يجوز ترك صلاة الكسوف عندي لمسافر ولا لمقيم ولا لأحد جاز له أن يصلي بحال.

وفي مختصر المزني: "ولا يجوز تركها لمسافر ولا لمقيم" والعبارتان صريحتان في الوجوب، وإليه ذهب بعض الحنفية، وحكاه القاضي السروجي٢ -منهم- عن صاحب الأسرار؛ غير أن تفرقتهم بين الوجوب والفرض منعت من موافقتهم، لأنا على قطع بأن الشافعي رضي الله عنه إن أراد حقيقة الوجوب فلا يعني به الوجوب الذي تعنيه الحنفية؛ إنما يعني به الفرض، ثم الفرض لا نعلم أحدًا قال به، فلم يمكن الإقدام عليه، واحتج إلى ركوب الشطط في تأويل عبارة الشافعي- فمن قائل: "أراد يكره تركها لتأكدها" واعتصم هذا القائل بقوله: ولا أحد جاز له أن يصلي بحال- قال لأن هذه العبارة يدخل فيها العبد والمرأة والمسافر، وهم لا تلزمهم الجمعة فكيف نوجب عليهم الكسوف؟ قلت: ولو ذهب ذاهب إلى وجوب الكسوف عليهم دون الجمعة مفرقًا بتكررها والحرج في وجوبها عليهم بخلاف الكسوف لم يكن مبعدًا، ومن ثم لا يتجه هذا التأويل.

ومن قائل: قد أوضح الشافعي في "البويطي" مراده فقال في الكسوفين ما نصه: "لأنهما ليسا نافلتين ولكنهما واجبان وجوب سنة. انتهى.

قال هذا القائل: فأراد تأكد الأمر بهما، وقوله "وجوب سنة" كقوله: "غسل الجمعة واجب على كل محتلم".


١ البخاري ١/ ٥٦٩ في الكسوف / باب الصدقة في الكسوف "١٠٤٤" ومسلم ٢/ ٦١٨ في الكسوف / باب الصلاة الكسوف "١/ ٩٠١".
٢ أحمد بن إبراهيم بن عبد الغني السروجي أبو العباس شمس الدين كان حنبليًا ثم تحول إلى المذهب الحنفي وأشخص من دمشق إلى مصر فولي الحكم الشرعي فيها ونعت بقاضي القضاة، وسروج نسبته إلى سروج بنواحي حران من بلاد الجزيرة، توفي في ربيع الآخر سنة عشر وسبعمائة.
الطبقات الكبرى ١/ ٣٠٠، الدرر الكامنة ١/ ٩١.
رفع الأصر ١/ ٥٠، الأعلام ١/ ٨٦.