للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

والفرق بين التوشيح والتمكين أيضًا أن الوشيح قد تقدم أنه لا بد أن يتقدم قافيته معنى يدل عليها، والتمكين بخلاف ذلك.

والعميان لم ينظموا أنواع التوشيح في بديعيتهم، وبيت صفي الدين:

هم أرضعوني ثدي الوصل حالفة ... فكيف يحصل منها حال منفطمي١

فقصيدة صفي الدين قد علم أنها ميمية، وقد مر على السامع منها عدة أبيات، وقد صدر بيت التوشيح بذكر الرضاع والثدي، فما يخفى أن تكون القافية منفطمًا إلا على كل أجنبي من هذا العلم. ولقد برز في حسن هذا التركيب باستجلاب الرقة على من تقدمه.

وبيت الشيخ عز الدين:

نومي وعقلي بتوشيح الهوى سلبا ... فبت صبًّا بلا حُلم ولا حِلم

قال في شرحه: الهوى وشحني برداه غطاني، فسلب نومي وعقلي فصرت بلا حلم ولا حلم. وهذه عبارته بنصها.

وبيتي:

توشيحهم بملا تلك الشعور إذا ... لفوه طيا يعرفنا بنشرهم

هذ النوع أعني التوشيح يفتقر الناظم إلى قدح زناد الفكر في سبك معانيه، مع الملكة والبسطة في علم الأدب وحسن التصرف، لا سيما إذا التزم بتسمية النوع، وأبرز التسمية منتظمة في سلك التورية من جنس الغزل، فتسمية النوع هنا قد عرفت والإتيان في هذا البيت بلفظة الملا، هو الذي رشح جانب التوشيح الجائل على العاتق والكشف، وأما توشيح الهوى في بيت الشيخ عز الدين، فلم ينسج على منوال مقبول، لأن استعارة الوشاح للهوى المقصور الذي هو الغرام، لم يفهم منها شيء يقرب من التشبيه، فإن علماء البديع قالوا: الاستعارة هي ذكر الشيء باسم غيره، وإثبات ما لغيره له لأجل المبالغة في التشبيه. وعلى هذا التقدير تكون استعارة الملا للشعور، في حالة توشيح الأحباب بها، هي الاستعارة التي يستعار منها المحاسن الأدبية، فإن حسن التشبيه قد غازل بعيون كماله غزلها، والتصريح في البيت، بلفظ اللف والنشر والطي، يعرفه من له أدنى ذوق، مع أني ما اكتفيت بذلك حتى قلت بعد اللف والطي: تعرفنا، وتعرفنا فيها الاشتراك بين المعرفة والعرف، فإذا تقرر أن القافية ميمية، ما يتصور في ذوق أن تكون القافية غير نشرهم، وقد اجتمع في هذا البيت من أنواع البديع: التورية، وحسن الاستعارة، والترشيح، والمطابقة، والبسط، والانسجام، والتمكين، والسهولة، والتوشيح الذي هو العمدة. والله أعلم بالصواب.


١ حافلة: ملأى.

<<  <  ج: ص:  >  >>