للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

النسيم أكثر الشعراء من استعماله في تحمل الرسائل. وغاية ما أغربوا فيه أنه ينشق منه عرف الأحبة، إذا هب من نحوهم. والنادرة التي أغربت بها هذا المعنى: أن نسيم الصبا لما نشقت عرف مديح النبي -صلى الله عليه وسلم- وتعرفت به تزايد شممها. والشمم للنسيم نادرة، بل نكتة لم أسبق إليها. فإن النسيم أحق باشتراك هذه التورية من غيره، لأن الشمم لائق به وهذا الذي أشار إليه ابن أبي الأصبع، في أن الشاعر يعمد إلى معنى مبذول معروف ليس بغريب في بابه، فيغربه، بزيادة لم تقع لغيره، ويصير بها ذلك المعنى المعروف غريبًا ومثل ذلك، حتى يزداد نوع النوادر إيضاحًا، قول أبي نواس:

هبت لنا ريح شمالية ... متت إلى القلب بأسباب

أدت رسالات الهوى بيننا ... عرفتها من بين أصحابي

قوله: عرفتها من بين أصحابي، نادرة لم يسبق إليها. وقد جاراه مجير الدين الخياط، في بديع هذا النوع. ونادرة هذا المعنى لولا الحياء لقلت إنه أحرز قصبات السبق عليه، بقوله:

يا نسيم الصبا الولوع بوجدى ... حبذا أنت لو مررت بهند

ولقد رابني شذاك فبالله ... متى عهده بأطلال نجد١

بين ولقد رابني شذاك، في بيت مجير الدين، وبين عرفتها من بين أصحابي معرك ذوقي، ما يدركه إلا من صفت مرآة ذوقه في علم الأدب. ولعمري إن النادرتين يتجمل بهما هذا النوع ومثله قول القائل، ويعجبني إلى الغاية:

ويد الشمال عشية مذ أرعشت ... دلت على ضعف النسيم بخطها

كتبت سقيمًا في صحيفة جدول ... فيد الغمامة صححته بنقطها٢

النوادر في هذين البيتين، لم يحتج برهانها إلى إقامة دليل، وقد فهمت الزيادات في غرابة المعاني المبتذلة.

ومثله، ولم يخرج عما نحن فيه من لطف النسيم ونوادر النوع، قول القائل:

هبت صبا من قاسيون فسكنت ... بهبوبها وصب الفؤاد البالي٣

خاضت مياه النيرين عشية ... وأتتك وهي بليلة الأذيال٤


١ رابني: حيرني، وجعلني أرتاب أي أشك.
٢ النقط: وضع النقاط على الحروف.
٣ قاسيون: جبل يشف على دمشق -الوصب: المرض والوجع.
٤ النيرين: دجلة والفرات، وهما من أسماء الشمس والقمر. والله أعلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>