للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ومنه قول بعضهم:

قد سمعتم أنينه من بعيد ... فاطلبوا الشخص حيث كان الأنين

قلت: ما برح طائر فكري يحوم على ورد هذا المعنى الذي حصلت فيه المواردة، على أن الشخص لا يرى لشدة نحوله إلا بأنين أو تأوه، وأريد أن أرشحه بنكتة، إلى أن قلت من قصيدتي التي عارضت بها كعب بن زهير، وامتدحت بها النبي صلى الله عليه وسلم:

وفوق طرس مشيتي أرَّخو تلفي ... وذلك الطرس فوق الرأس محمول

وقد تجاوز جسمي حد كل ضني ... وها أنا اليوم في الأوهام تخييل

وقد تقدم وتقرر، أن أداة المقاربة ما استعملت في الإغراق إلا لتنقله من الامتناع إلى الإمكان، وهذا الذي أوردته بغير أداة المقاربة هنا، إن كان يبعد عادة، لا يبعد عقلًا.

ومما استشهدوا به على نوع الإغراق، بلو، التي يمكن الإغراق بها عقلًا ويمتنع عادة، قول القائل:

ولو أن ما بي من جوى وصبابة ... على جمل لم يبق في النار كافر

يريد أنه لو كان ما به من الحب بجمل لنحل حتى يدخل في سم الخياط، وذلك لا يستحيل عقلًا، إذ القدرة قابلة لذلك لكنه ممتنع عادة. وهذا غاية في الإغراق.

وأورد الشيخ شهاب الدين ابن جعفر المغربي الأندلسي، في شرحه الذي كتبه على بديعية صاحبه شمس الدين محمد بن جابر الأندلسي، على هذا البيت حكاية لطيفة، وهي أن إبليس تعرض لبعض الأولياء فلم ينل منه غرضًا. فقال له الولي: من أشد عليك: العابد الجاهل، أو العالم المسرف على نفسه؟ فقال: العالم المسرف، وأما العابد الجاهل فهو في قبضتي أدخل عليه في دينه من حيث شئت. وأنا أريك ذلك. فانطلق به إلى أعبد الجهال في ذلك الزمان، فطرق عليه الباب، فخرج إليهما. فقال له إبليس: جئت أستفتيك: هل الله قادر على أن يدخل الجمل في سم الخياط أو لا. فتوقف وتحير وغلق الباب. فقال إبليس للولي: ها هو قد كفر بالشك في قدرة الله تعالى، ثم انطلق به إلى عالم مسرف على نفسه، وطرق عليه الباب، وكان في القائلة١، فقال الرجل العالم: من هذا الشيطان الذي يضرب بابي في القائلة، وقد قال عليه الصلاة والسلام:


١ القائلة: الاستراحة وقت الظهر.

<<  <  ج: ص:  >  >>