للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فسكره بالأمس، بسبب عزمه على الشرب غدًا، مما لا يمكن عقلًا ولا عادة أيضًا.

ومنه قول أبي نواس:

وأخفت أهل الشرك حتى إنه ... لتخافك النطف التي لم تخلق

وهذا الذي قاله أبو نواس أيضًا، أمر مستحيل، فإن قيام العرض الموجود، وهو الخوف بالمعدوم، وهي النطف التي لم تخلق، لا يمكن عقلًا ولا عادة. ومن ألطف ما يحكى هنا أن العتابي الشاعر لقي أبا نواس، فقال له: أما تستحي من الله بقولك:

وأخفت أهل الشرك البيت؟ فقال له أبو نواس: وأنت أيضًا ما استحيت من الله بقولك:

ما زلت في غمرات الموت مطرحًا ... يضيق عني وسيع الرأي من حيل

لم تزل دائبًا تسعى بلطفك لي ... حتى اختلست حياتي من يدي أجلي١

فقال العتابي: قد علم الله، وعلمت أن هذا ليس مثل قولك، ولكنك أعددت لكل سؤال جوابًا.

ومنه قول بعضهم:

قد كان لي فيما مضى خاتم ... واليوم لو شئت تمنطقت به٢

وذبت حتى صرت لو زج بي ... في مقلة النائم لم ينتبه٣

ومثل هذا أيضًا لا يقبله العقل، ولا عليه رونق القبول.

قلت: ومراتب الغلو تتفاوت إلى أن تئول بقائلها إلى الكفر. فمن ذلك قول ابن دريد:

مارست من لو هوت الأفلاك من ... جوانب الجو عليه ما شكا

قيل: إنه لأجل هذا البيت، والإدعاء العظيم الذي ادعى فيه ابتلي بمرض كان فيه يخاف من الذباب أن يقع عليه.


١ معنى قول أبي نواس ظاهرة الشرك وباطنه المبالغة فهو يكاد يصل بممدوحه درجة الخالق جلّ وعلا إذ النطف التي لم تخلق لا تخاف إلا خالقها، عقلًا وقول العتابي: يعني: ما زلت أعاني من المصاعب المميتة ولا أستطيع لنفسي حيلة للنجاة. وأنت واضبت، تلطفًا منك وكرمًا، تفتش لي عن مخرج مما أنا فيه حتى كان ذلك على يديك فكأنك قد خلصتني من الموت بإذن الله. ولا يخفى الفرق بين المقصودين.
٢ تمنطق: لبس المنطقه وهي قطعة من جلد أو من قماش تشد على الوسط.
٣ زجّ: حشر ووضع في مكان يضيق عليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>