أن نزلت بجِلِّيقيَّة إلى جانب خبائه في ليلة نهى المنصور فيها عن وقود النيران، ليُخفي على العدو وأثره ولا ينكشف إليه خبره، فرأيت والله، عثمان تبنه يسفّه دقيقاً قد خلطه بماء يقيم به أوَدهُ، ويمسك بسببه رمقه، بضعف حال، وعدم زاد، وهو يقول:
تأمَلتُ صَرفَ الحادثات فلم أزلْ ... أراها توفّي عند موعدها الحُرّا
فلله أيام مضت بسبيلها ... فإنّي لا أنسى لها أبداً ذِكراً
تجافت بها عنّا الحوادثُ بُرهَةً ... وأبدتْ لنا منها الطّلاقة والبِشْرا
لياليَ لم يدرِ الزمانُ مكانها ... ولا نظرتْ منها حوادثه شَزْرا
وما هذه الأيّام إلاّ سحائب ... على كلّ أرض تُمطِرُ الخَيرَ والشَّرَّا
وكان مّما أعين به ابن أبي عامر على جعفر المُصحَفي ميل الوزراء إليه وإيثارهم له عليه، وسعيهم في ترقّيه وأخذهم بالعصبية فيه، فإنها لم تكن حميّة إعرابية، فقد كانت سَلفيَّة سُلطانَّية، يقتضي القوم فيها سبيل سَلفهم ويمنعون بها ابتذال شرفهم، غادروها سيرة،