للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تُنازِعُني النَّفْسُ أَعْلى الأمورِ ... وَلَيْسَ مِنَ العَجْزِ لا أَنْشَطُ

وَلَكِنْ بِمِقْدارِ قُرْبِ المكانِ ... تَكونُ سلامَةُ مَنْ يَسْقُطُ

وعلى الجملة فالزهد أمر تمسك العقلاء بعروته الوثقى، ولهذا أفتى الفقهاء بأنه لو أوصى لأعقل الناس صرف إلى الزهاد، وكل ما تراه عينك رهن الزوال، ومقدمات نتيجتها العدم، ولله در ابن الشبل البغدادي (١)

إذ يقول: (من الخفيف)

صحة المرء للسّقام طريقٌ ... وطريق الفناء هذا البقاء

بالذي نغتذي نموت ونحيا ... أقتل الدّاء للنفوس الدواء

ما لقينا من غدر دنيا فلا كا ... نت ولا كان أخذها والعطاء

صلفٌ / تحت راعد وسراب ... كرعت منه مومسٌ خرقاء [٥٢ أ]

راجعٌ جودها عليها فمهما ... يهب الصبح يستردّ المساء

ليت شعري حلما تمر به الأيا ... م أم ليس تعقل الأشياء

من فسادٍ يكون في عالم الكو ... ن فما للنفوس منه اتّقاء

وقليلا ما تصحب المهجة الجسـ ... م ففيم الشقاء وفيم العناء

قبَّح الله لذةً لشقانا ... نالها الأمهات والآباء

نحن لولا الوجود لم نألم الفقـ ... ر فإيجادنا علينا بلاء

وهي طويلة، وقال آخر (٢): (من الرمل)

هذه الدنيا وهذا شأنها أتعب الناس بها أعوانها

وذوو الأحلام قالوا إنها ... حلُمُ يقضي بها يقظانها

يقال إنُ بعض الخلفاء أرسل إلى الخليل بن أحمد رسوله، فوجده يبل كسرة في ماء، ويأكل منها، فقال: أجب أمير المؤمنين، فقال: ما لي إليه حاجة، فقال: إنه يغنيك، فقال: ما دمت أجد هذين فإني لا أحتاج إليه، وقال تلميذه النضر بن شميل: أقام الخليل في خُصٍّ من أخصاص البصرة، لا يقدر على فلس، وأصحابه يكسبون الأموال بعلمه، وأخبار الزهاد في إعراضهم كثيرة، وهذا الذي تقدم ذكره كله مخالف مراد الطغرائي في البيت، فإنّ رأيه السعي والجد والكد والكدح والانتصاب لتلقي لتلقي الأهوال في تحصيل المعالي، والترقي إلى


(١) الحسين بن عبد اله بن يوسف بن أحمد بن شبلٍ أبو عليٍ البغدادي. ولد في بغداد وبها نشأ، وبها توفي سنة أربعٍ وسبعين وأربعمائةٍ. كان متميزاً بالحكمة والفلسفة، خبيراً بصناعة الطب، أديباً فاضلاً وشاعراً مجيداً، أخذ عن أبي نصرٍ يحيى بن جريرٍ التكريتي وغيره. وهو صاحب القصيدة الرائية التي نسبت للشيخ الرئيس ابن سينا وليست له، وقد دلت هذه القصيدة على علو كعبه في الحكمة والاطلاع على مكنوناتها، وقد سارت بها الركبان وتداولها الرواة، وهي:
بربك أيها الفلك المدار ... أقص ذا المسير أم اضطرار؟؟

معجم الأدباء ١٠/ ٢٣ ـ ٢٤
(٢) البيتان في الغيث المسجم ٢/ [٤٩ ب] لا عزو.

<<  <   >  >>