للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وانقلبت مكاسب قريش- أو التي ظنتها مكاسب- خسارة كبرى عليها ومكسبا رائعا للإسلام. وبصفة خاصة الشرط الأخير من شروط المعاهدة الذي اعتبرته قريش مكسبا ضخما، ولكنها هي نفسها التي طلبت من النبي تنازلها عن هذا الشرط. فقد جاء أحد مسلمي مكة وهو أبو بصير إلى النبي بعد الحديبية، وطلبت قريش- رده إليها طبقا لشروط المعاهدة، فرده إليهم صاحب الوفاء النادر بالعهد. وقال لأبي بصير:

«اصبر واحتسب، وسوف يجعل الله لك ولمن معك فرجا ومخرجا» ولكن أبا بصير استطاع الإفلات من مندوبي قريش، ولجأ إلى ساحل البحر الأحمر، والتف حوله نحو سبعين من مسلمي مكة الفارّين من ظلم قريش. وصمموا على الانتقام من قريش، وقطعوا عليها طريق تجارتها إلى الشام، مما جعلها تتوسل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم أن يضم هؤلاء المسلمين إليه، وأنها تنازلت عن الشرط الخاص بهم في المعاهدة.

هذه هي معاهدة الحديبية، ألست معي في أنها دليل قاطع على أن السلم هو هدف المسلمين الأسمى، وأنه أصل العلاقات الدولية في دولة الإسلام؟

[* الإسلام والعالم:]

عرفنا فيما سبق أن الإسلام دين عالمي، وعرفنا معنى هذه العالمية، وعرفنا أن رسول الإسلام صلّى الله عليه وسلم مكلف بتبليغ رسالته إلى الناس كافة. وعرفنا ما هو الأسلوب الذي حدّده القرآن الكريم للنبي في مجال الدعوة إلى دينه في الأحوال الطبيعية ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل: ١٢٥] .

وكان النبي صلّى الله عليه وسلم ينتظر الفرصة المواتية ليخرج بالدعوة الإسلامية من نطاق الجزيرة العربية إلى النطاق العالمي. وقد جاءت هذه الفرصة بعد صلح الحديبية- الآنف ذكره- فنتيجة لهذا الصلح، أصبح النبي صلّى الله عليه وسلم آمنا من ناحية قريش، أقوى أعدائه، كما أنه تخلص من خطر اليهود ومكرهم وكيدهم، بفتح خيبر. وعلى الجملة؛ فمع بداية العام السابع الهجري ساد شبه الجزيرة العربية جو من الهدوء النسبي مكن النبي صلّى الله عليه وسلم من توجيه دعوته الخالدة إلى أكبر عدد ممكن من ملوك وزعماء العالم المعاصرين. فأعد عددا من جلة صحابته- رضوان الله عليهم- وحملهم رسائل إلى هرقل- عاهل الروم- وكسرى- عاهل الفرس- والنجاشي- عاهل الحبشة- والمقوقس- حاكم مصر- كما أرسل إلى عدد من أمراء العرب في شبه الجزيرة العربية، مثل أمراء البحرين وعمان واليمن، بالإضافة إلى أمراء الغساسنة

<<  <   >  >>