قاسية. ونظر النبي صلّى الله عليه وسلم ببصيرته الملهمة إلى الموقف من جميع جوانبه. ورأى أن مسؤوليته كقائد للمسلمين تفرض عليه أن يحقن دماءهم ما وجد إلى ذلك سبيلا.
وعظمة هذا الموقف أنه لم يكن موقف الضعيف الذي يذعن لعدوه استسلاما لمطالبه، ولكنه كان موقف القوي الذي يبحث عن السلام. وقبل شروط قريش، ووقعت معاهدة الحديبية وكان أهم شروطها كالآتي:
أولا: وضع الحرب بين الفريقين لمدة عشر سنين.
ثانيا: أن يرجع النبي وأصحابه عامهم هذا دون أن يدخلوا مكة، فإذا كان العام القادم دخلوها لمدة ثلاثة أيام بدون سلاح إلا السيوف في قرابها.
ثالثا: من أراد من القبائل العربية أن يدخل في حلف النبي وعهده دخل فيه، ومن أراد أن يدخل في حلف قريش وعهدها دخل فيه.
رابعا: من أتى النبي من قريش من غير إذن وليه رده عليهم، أما من جاء قريشا من عند النبي فلا يردونه عليه.
وكان هذا الشرط الأخير أقسى ما في المعاهدة على قلوب المسلمين، واعتبروه مذلة لهم، حتى أن بعضهم- مثل عمر الخطاب رضي الله عنه- لم يستطع أن يكتم معارضته. ولكن النبي صلّى الله عليه وسلم هدّأهم، وأظهر من الصبر وسعة الأفق ما لم يسبق له مثيل أمام غرور ممثل قريش، الذي أصر على حذف «بسم الله الرحمن الرحيم» من صدر المعاهدة، وعلى أن يكتب اسم النبي مجردا من صفة النبوة، وقبل النبي صلّى الله عليه وسلم كل ذلك، وهي تضحيات جسيمة. ولكن تحقيق السلام يستحق التضحيات الجسام.
ولقد أظهرت الظروف فيما بعد أن كل الذي تألم له المسلمون كان في مصلحتهم وكانت المكاسب التي حصل عليها الإسلام نتيجة صلح الحديبية أروع من أية مكاسب تأتي نتيجة أية معركة عسكرية. وذلك بفضل بعد نظر القائد العظيم- عليه الصلاة والسلام- ولقد كانت الحديبية بداية الفتح الأعظم ونزلت بعدها سورة الفتح تبشر المسلمين بالفتح المبين، ولم يكد يمضي عامان على صلح الحديبية، حتى تضاعف عدد المسلمين عدة مرات. فعدد المسلمين الذين شهدوا الحديبية كان ألفا وأربعمائة، أما الذين ساروا خلف النبي لفتح مكة (سنة ٨ هـ) فكانوا عشرة آلاف مسلم كما أن الإسلام خلال هذين العامين استطاع أن يخرج إلى النطاق العالمي.