بيّنّا في الصفحات السابقة أن السلام هو الأصل والقاعدة في علاقات الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم، وأن الحرب هي الاستثناء، أو هي الضرورة التي لا يلجأ إليها إلا عند مقتضياتها المشروعة، كما يجب حصرها في نطاق هذه المقتضيات دون التوسع فيها، فالحرب في حد ذاتها ليست غاية؛ إنما هي وسيلة لتحقيق أسمى الغايات وهو السلام، ونريد الآن أن نبيّن مقتضيات الحرب المشروعة في الإسلام.
فالإسلام بما أنه عقيدة عالمية، ورسالة إلهية تحمل الخير والسعادة لكل البشر على وجه الأرض؛ فقد كان من المتوقع أن يقاومه ويصد الناس عنه أشرار الأرض وطغاتها.
فالتاريخ يدلنا على أنه لم تسلم دعوة دينية من مقاومة الأشرار والطغاة لها، ووقوفهم بكل قوة في طريقها. وقد واجه الإسلام هذا الموقف، فقد وقفت قريش بكل جبروتها وطغيانها موقف العداء السافر للإسلام ورسول الإسلام، وظل الرسول صلّى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة في مكة وهو يحاول جهده وبكل وسيلة أن يثني قريشا عن طريق الإسلام فلم تستجب، وأخيرا تامرت على حياته وأجبرته وأصحابه على أن يهاجروا من مكة إلى يثرب- المدينة المنورة- وكان هذا غاية الظلم والاضطهاد من جانب قريش، ولم تكتف بهذا بل استمرت في أساليبها الاستفزازية للمسلمين في مهاجرهم الجديد؛ لذلك لم يكن أمام المسلمين إلا أن يواجهوا القوة بالقوة؛ لأن الدعوة بالحسنى هنا لا تجدي وليس هذا مكانها، فما دام الطغاة قد صموا آذانهم عن سماع الحق فلا بد من معاملتهم بأسلوب آخر يضع حدّا لغطرستهم وجبروتهم والواقع أن الإسلام كان يتوقع هذا الموقف من قريش وغيرها، وكان يتوقع أنه قد يضطر لاستخدام القوة لإزالة العقبات من طريقه، إلا أنه مع كل هذا ظل دائما ينظر إلى الحرب على أنها ضرورة، ولم يبحها إلا عند مقتضياتها المشروعة. ومقتضيات الحرب أو مسوغاتها المشروعة في نظر الإسلام لا تخرج عن واحدة من ثلاث حالات «١» .
[الحالة الأولى: الدفاع عن النفس]
، كما تصورها الآية الكريمة: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ
(١) انظر: سيد قطب- السلام العالمي والإسلام (ص ٧٤) ، وسيد سابق- عناصر القوة في الإسلام (ص ٢١٠، ٢١١) ود. دراز- دراسات إسلامية (ص ١٤٢) ، ود. محمد البهي- الدين والدولة (ص ٤٧٨) ، والدكتور وهبه الزحيلي- آثار الحرب في الفقه الإسلامي (ص ٩٣، ٩٤) .