إن لم تبتعد عن طريق الدعوة، وأن تكف عن ملاحقة المسلمين بالأذى، وإن لم ترفع أذاها عن المستضعفين من المسلمين، الذين حبستهم في مكة، وحالت بينهم وبين الهجرة إلى المدينة، فسوف يهدد الرسول تجارتها، بل مصدر عزها ومجدها وثرائها، وتفوقها على غيرها من قبائل العرب. فإن هي أفاقت لنفسها، وإلّا فلتأت الضربة القاضية.
[* قريش تستمر في إلحاق الأذى بالمهاجرين:]
لم تكتف قريش بما صنعته بالنبي صلّى الله عليه وسلم والمسلمين في مكة طوال ثلاثة عشر عاما، وما أذاقتهم من الأذى والاضطهاد؛ فمن تعذيب جسدي لأصحاب النبي، إلى تجويع وحصار اقتصادي واجتماعي، إلى غير ذلك من الجرائم الوحشية التي ارتكبتها في حق الجماعة المؤمنة، بل إنها صعدت جرائمها إلى حد التامر على قتل النبي صلّى الله عليه وسلم مما اضطره أن يهاجر من مكة- أحب بلاد الله إليه- ولم تترك المسلمين في موطنهم الجديد في المدينة المنورة وقد أجبرتهم على ترك ديارهم وأموالهم يمارسون شعائر دينهم، ويدعون إلى الله في حرية وأمان، بل أخذت تلاحق المهاجرين منهم لتردهم إلى مكة وتفتنهم عن دينهم، وتضعهم في السجون، وتحرمهم من حريتهم، متجاوزة بذلك كل الأعراف والتقاليد، ولم ترع لأحد حرمة. فقد روى نافع مولى عبد الله بن عمر عن عبد الله عن أبيه عمر بن الخطاب رضى الله عنهما أنه قال- أي عمر-:
«اتّعدت لما أردنا الهجرة إلى المدينة أنا وعيّاش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل السهمي التّناضب «١» من أضاة بني غفار فوق سرف، وقلنا: أيّنا لم يصبح عندها فقد حبس فليمض صاحباه، قال: فأصبحت أنا وعياش بن أبي ربيعة عند التّناضب، وحبس عنها هشام، وفتن فافتتن. فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو ابن عوف بقباء، وخرج أبو جهل بن هشام والحرث بن هشام إلى عياش بن أبي ربيعة، وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما، حتى قدما علينا المدينة، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم بمكة، فكلّماه- أي: عيّاش- وقالا: إن أمّك قد نذرت ألايمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك، فرقّ لها، فقلت له: يا عياش، إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم، فو الله لو قد آذى أمّك القمل
(١) التّناضب اسم موضع بالقرب من مكة، الأضاة: الغدير يجمع من ماء المطر، سرف موضع بين مكة والمدينة.