ومضت في طريقها بثبات وخطى حثيثة رغم المعوقات التي كانت تأتي للأسف غالبا من جانب بعض الولاة الذين كانوا يعنون بالجباية أكثر من الهداية، والأمر الجدير بالملاحظة والتنويه، والذي يسعد الباحث المسلم أن الضمير الجمعي للمسلمين هناك لم يستسلم لإجراآت الولاة وقاومها بقوة وأجبرهم على مراجعة أنفسهم وتصحيح الخطأ، وهذا شيء جميل، فالإسلام هو الذي علّم الناس كيف يدافعون عن حقوقهم.
ويبدو لي أن استياء مسلمي ما وراء النهر من دفع الجزية ليس راجعا إلى كونها عبئا ماليّا، ولكن لإحساسهم بالمهانة من دفعها وهم مسلمون، وبعد أن علمهم فقهاء المسلمون أنه لا جزية على مسلم.
[* العباسيون وانتشار الإسلام فيما وراء النهر:]
رأينا فيما سبق من هذا البحث أن العباسيين- منذ قامت دولتهم سنة (١٣٢ هـ) - واصلوا سياسة الدولة الأموية في تثبيت الفتوحات فيما وراء النهر، بل التصدي لخطر الأتراك الشرقيين، ثم لخطر الصين عند ما ظهر، ومعنى هذا أن تغيير الحكومة الإسلامية، وانتقال الخلافة من الأسرة الأموية إلى الأسرة العباسية لم يغير من السياسة العامة للدولة الإسلامية، وهي تثبيت الفتوحات وعدم التفريط في أي إنجاز تحقق في البلاد المفتوحة وتهيئتها لقبول الإسلام عقيدة وفكرا وثقافة وسلوكا، في حرية تامة.
ومن الجدير بالذكر والتنويه أن العباسيين مضوا خطوات أبعد مما فعل الأمويون أنفسهم في تحقيق الأهداف الإسلامية العليا- وليس هذا اتهاما للأمويين بالتقصير وإنما تطور الظروف ساعد العباسيين وكان مواتيا لهم أكثر- أي: إنهم لم يقفوا عند مجرد مواصلة جهود الأمويين في الحفاظ على الفتوحات الإسلامية في بلاد ما وراء النهر، وإخضاع الأتراك الشرقيين للسيادة، والتصدي للخطر الصيني وإيقافه عند حده، بل مضوا بحركة انتشار الإسلام قدما إلى الأمام، وأعطوا بلاد ما وراء النهر عناية كبيرة ولم ينسوا أنها أسهمت بنصيب كبير في قيام دولتهم، وكانت تربة صالحة لنمو بذور دعوتهم، ولم يكن ذلك ممكنا لو لم تكن أقدام الإسلام قد رسخت في تلك البلاد منذ العصر الأموي، فالدعوة العباسية رفعت شعارات إسلامية وقامت على مرتكزات إسلامية من أهمها شعار المساواة بين المسلمين، من العرب وغيرهم، وهذا كان شعارا جذابا لأهل خراسان وما وراء النهر الذين كانوا يحسون أنهم يعاملون معاملة أقل من معاملة المسلمين من العرب.