يكن هذا صحيحا، فالفرار لم يكن من خلق المسلمين الصادقين أبدا ولن يكون.
ولكن الرسول صلّى الله عليه وسلم قدر موقفهم ورفع معنوياتهم وقال:«ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله» .
وهكذا أصبح جليّا أن الروم قد أعلنوها حربا شعواء على الإسلام ودولته. ولكن المسلمين سوف يلقنونهم درسا قاسيا، وسوف يرغمون هرقل على أن يغادر الشام وإلى الأبد. وقلبه يقطر دما وهو يقول:«وداعا يا سوريا وداعا لا لقاء بعده» .
[* من مؤتة إلى تبوك:]
رأينا ما قد صنع الروم بالمسلمين في مؤتة، حيث حاولوا استئصالهم، لولا لطف الله، الذي ألهم خالد بن الوليد بخطة الانسحاب. وقلنا لك: إن تدخل الروم في مؤتة على هذا الشكل يعتبر إعلان حرب من جانبهم على الإسلام والمسلمين.
وما داموا قد أعلنوا الحرب على الإسلام والمسلمين، فإن جهادهم ورد عدوانهم أصبح واجبا على المسلمين وقيادتهم. وقد فتحت مؤتة عيون المسلمين أكثر فأكثر على خطر الروم. وكان الرسول صلّى الله عليه وسلم دائم الرصد لأخبارهم وكل تحركاتهم، وكان ينتظر الفرصة المناسبة لتأديبهم ولينسيهم وساوس الشيطان. ولم يكن مناسبا أن يغزو النبي صلّى الله عليه وسلم الروم قبل أن تذعن قريش للإسلام، صحيح أن بين النبي وبين قريش هدنة بسبب صلح الحديبية، ولكن لا يدرى ماذا تصنع قريش إذا علمت أن الرسول صلّى الله عليه وسلم انشغل في حرب مع الروم؟ فقد تنتهز الفرصة وتنقض على المدينة، وعندئذ يقع المسلمون بين عدوّين خطيرين. لذلك آثر النبي أن يؤجل الاشتباك مع الروم والذي- أصبح واجبا محتما- إلى ما بعد تصفية الحساب مع قريش. خصوصا وأن قريشا عندما علمت بهزيمة المسلمين في مؤتة أمام الروم، فرحت جدّا، وظنت أن في ذلك القضاء على المسلمين، فما دام الروم قد وجهوا أنظارهم إلى المسلمين، ورصدوا لهم هذه الأعداد الهائلة، فإنهم سوف يريحونها من الإسلام هكذا ظنت قريش وهكذا فكرت، ولكن خاب تفكيرها وساء ظنها: حمل هذا التفكير السقيم وهذا الظن السيئ قريشا على نقض معاهدة الحديبية- التي أشرنا إليها- استخفافا بأمر المسلمين بعد مؤتة، ولتعيد الأمور كما كانت عليه قبل عهد الحديبية «١» ، ولم تكن تدري أن ذلك سوف يؤدي إلى أن تفتح مكة أبوابها للنبي صلّى الله عليه وسلم.