أدى مصعب بن عمير مهمته بنجاح، وعاد إلى مكة ليزف إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه بشرى ذلك النجاح وليخبر النبي صلّى الله عليه وسلم بأن يثرب عقدت العزم على الوقوف معه، فهي لم تكتف بمجرد الإيمان به وأن تبقى بعيدا عن الصراع الدائر مع أهل مكة، بل إنها على استعداد لنصرة النبي صلّى الله عليه وسلم، وعلى استعداد لاستقباله فيها وبذل الأنفس والأموال في الدفاع عنه وعن دعوته، وآية ذلك الوفد الكبير الذي ذهب إلى مكة عقب وصول مصعب إليها، واتفق مع النبي صلّى الله عليه وسلم على تفاصيل كل شيء فيما عرف ببيعة العقبة الثانية أو الكبرى، وأغلب الظن أن هذه البيعة كانت تتويجا للمفاوضات السرية التي دارت بين مصعب وبين زعماء الأنصار أثناء وجوده في يثرب، وأنه عاد إلى النبي بتقرير مفصل عن عزمهم نصرة النبي صلّى الله عليه وسلم، وقبوله في بلدهم مهاجرا عظيما، والذود عنه وعن دعوته، وأن الرجال الذين شهدوا العقبة الثانية كانوا على يقين مما هم مقدمون عليه، وعلى يقين كذلك من أن ما هم مقدمون عليه، سيضعهم مع قريش في مواجهة مريرة وقاسية، ولكن ما قريش وما عداوتها أمام ما فتح الله عليهم به من الخير والمجد والسيادة؟ حيث اختارهم أنصارا لدينه وذادة عن نبيه، وإذا كانت قريش قد استطاعت إلى ذلك الوقت أن تقف سدّا منيعا أمام الدعوة، وإذا كان العرب الآخرون قد جاملوها ووقفوا على الحياد، فإن يثرب قد تخلت عن هذا الموقف وسوف تحمل على عاتقها إنهاء معارضة قريش للدعوة، وسوف تقف خلف قيادة الرسول لدحر كل من يتصدى له حتى ولو كانت قريش.
وآية ذلك أنه أثناء المفاوضات بين النبي صلّى الله عليه وسلم وبينهم في العقبة الثانية، قال لهم العباس بن عبد المطلب- الذي لم يكن قد أسلم بعد ولكنه حضر مع النبي ليطمئن على مستقبله-: «يا معشر الخزرج إن محمدا منا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا ممن هم على مثل رأينا فيه، فهو في عز ومنعة في بلده، وقد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه؛ فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم؛ فمن الآن فدعوه فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده» .
لم يخف على أهل يثرب مرمى كلام العباس بن عبد المطلب، فقالوا له على الفور:«قد سمعنا ما قلت، تكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت» ، فتكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغّب في الإسلام، ثم قال: