تقف معاهدة الحديبية التي وقّعت بين النبي صلّى الله عليه وسلم وبين قريش، دليلا شامخا على ميل المسلمين إلى السلام، وعلى أن السلام هو الأصل في علاقات المسلمين بالآخرين. فما هي قصة هذه المعاهدة؟
منذ بدء الدعوة الإسلامية وقريش تعادي النبي صلّى الله عليه وسلم عداء سافرا ووحشيّا، استمر ما يقرب من عشرين عاما، وبعد ست سنوات من الهجرة قضاها النبي وأصحابه في جهاد مستمر، ضد المشركين من العرب تارة، وضد اليهود ومؤامراتهم وخياناتهم تارة أخرى، وفي أثناء ذلك كان الإسلام يزداد منعة وانتشارا وقوة، مما جعل النبي صلّى الله عليه وسلم يفكر أنه ربما تكون قريش قد اقتنعت بخطئها وعجزها عن مقاومة الإسلام، فقرر أن يعطيها فرصة إما لتدخل فيما دخل الناس فيه وتعتنق الإسلام، وإما أن تكف عن حربه ومقاومته وعن صد الناس عنه فأعلن صلّى الله عليه وسلم في ذي القعدة من العام السادس الهجري عن عزمه على زيارة مكة هو وأصحابه، زيارة سليمة لتأدية شعائر العمرة، وهي تجربة لقريش، فإن هي خلت بينه وبين زيارة البيت الحرام، فقد يكون ذلك مؤشرا طيبا لتراجعها، ولبداية علاقات سلمية معها، وعندئذ يمكن أن يتفرغ النبي صلّى الله عليه وسلم لتبليغ دعوته خارج شبه الجزيرة العربية. ودعا القبائل العربية المجاورة للمدينة، والتي لا تزال على شركها لتشاركه وأصحابه زيارة البيت الحرام، ليدلل أكثر وأكثر على رغبته في السلام.
ومن ناحية أخرى حرص النبي على أن يأخذ معه أكبر عدد من المسلمين؛ لأن احتمال أن تضطره قريش إلى الدخول معها في معركة كان احتمالا واردا، فهو يعرف غدرها وغرورها، فخرج من المدينة ومعه نحو ألف وأربعمائة من أصحابه مقدمين الهدي أمامهم، كدليل على أنهم جاؤوا معتمرين حاجين، ولم يجيؤوا مقاتلين «١» .
وما أن علمت قريش بعزم النبي صلّى الله عليه وسلم، حتى أعلنت عن موقفها العدائي، وهو منع النبي من دخول مكة، مهما كلفها ذلك، واستنفرت جيشا كبيرا جعلت على قيادته خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل. وكان هذا موقفا ظالما مصرّا على العداء والحرب. فكيف تمنع قريش النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه من زيارة البيت الحرام،
(١) في كل ما يتعلق بقصة الحديبية راجع: ابن هشام، القسم الثاني (ص ٣٠٨) وما بعدها، ابن حجر- فتح الباري (٧/ ٣٤٩) وما بعدها، د. هيكل- حياة محمد (ص ٣٦٣) وما بعدها.