الأمر إذن ليس أمر اعتداآت عفوية متفرقة، على الإسلام والمسلمين، وإنما هو أخطر من ذلك بكثير، هو تحالف ضخم بين القبائل العربية وبين الروم ضد دولة الإسلام الوليدة، وضد الدعوة الإسلامية والتصدي لها ومقاومتها، وهو ما لم يمكن السكوت عليه من جانب المسلمين ولذلك كانت مؤتة وكان ما تلاها من أحداث وتطورات بين المسلمين والروم.
[* تدخل الروم في مؤتة إعلان حرب على الإسلام:]
لما وقعت حادثة اغتيال مبعوث النبي صلّى الله عليه وسلم، الحارث بن عمير الأزدي، كان لا بد من عقاب من قام بهذا العمل الغادر؛ لأن دماء الرسل والسفراء والمبعوثين مصانه في كل عرف وفي كل زمان ومكان، فإذا اعتدى أحد على مبعوث من مبعوثي النبي بهذا الشكل الدنيء؛ فإن هذا يعتبر إهانة بالغة للإسلام والمسلمين، وإذا لم يرد المسلمون على هذا العدوان؛ فإن هذا في أقل تقدير سيطمع فيهم أعداءهم ويجرئهم على تكرار هذا الفعل مرات عديدة، خصوصا في هذه المناطق التي لا غنى للمسلمين عن المرور فيها، دعاة أو تجارا أو مجاهدين أو مبعوثين لذلك كان الرد والعقاب أمرا مشروعا، فندب النبي صلّى الله عليه وسلم المسلمين للقيام بهذه المهمة وأمرهم أن يقصدوا إلى المكان الذي استشهد فيه الحارث بن عمير رضى الله عنه وقبل القتال أمرهم النبي أن يدعوا الناس إلى الإسلام فإن أجابوا، فعندئذ يكونون قد اعتذروا عن فعلتهم وكفروا عن ذنبهم، فلا داعي لقتالهم. أما إذا رفضوا الإسلام، فإنهم بهذا يؤكدون إصرارهم على عدائهم للإسلام ومقاومته، وعندئذ كانت أوامر الرسول صلّى الله عليه وسلم لجنوده بأن يستعينوا الله عليهم ويقاتلوهم. وكانت المهمة على هذا النحو محدودة تحديدا دقيقا. فهي مهمة تأديبية. لتأديب شرحبيل بن عمرو الغساني ومن ظاهره على هذه الجريمة، ولم يرد فيها ذكر للروم إطلاقا، بل ربما لم يرد في ذهن النبي صلّى الله عليه وسلم أن الروم سوف يتصدون للمسلمين بهذه الأعداد الهائلة. فنحن نعرف من حذر النبي وحيطته أنه لو فكر في الروم وتصور أن يدخلوا مع المسلمين في حرب لاستعد لذلك استعدادا أكبر ولكانت الحملة على نطاق واسع، فالروم دولة قوية وإمكانياتها هائلة،
(١) ابن سعد- الطبقات (٢/ ١٢٨، ١٢٩) وانظر سيد قطب- في ظلال القرآن (١٠/ ١٨٣) .