العالمي، ممثلا في الرسائل التي حملها مبعوثو النبي صلّى الله عليه وسلم إلى زعماء العالم، كل ذلك لم يكن ممكنا قبل إخضاع قريش وتقييد حركتها ضد الإسلام، ورغم أنها ظنّت- بل ظنّ بعض المسلمين- أنها خرجت كاسبة من معاهدة الحديبية، ولكن في واقع الأمر كان صلح الحديبية انتصارا رائعا لدبلوماسية الرسول صلّى الله عليه وسلم وسياسته الحكيمة وبعد نظره، وقد دلّت كل وقائع التاريخ بعد ذلك على نجاح هذه السياسة النبوية، وصدق الله العظيم الذي سمى هذا الصلح: فَتْحاً مُبِيناً [الفتح: ١] .
هل تعجب- بعد أن علمت ورأيت كل ذلك- من أن الرسول صلّى الله عليه وسلم قد أعطى كل هذه الأهمية لقريش، وكرّس معظم جهوده لمعالجة العلاقات معها؟ حتى علاقاته بالقبائل الآخرى التي كانت تقطن المناطق الساحلية على الطريق بين مكة والمدينة- خزاعة وجهينة وغفار وضمرة وبنو مدلج وغيرهم- والتي حالفها ووادعها وعاهدها، كانت جزآ رئيسيّا من سياسته صلّى الله عليه وسلم ضد قريش ومن خطته في محاصرتها، وتضييق الخناق عليها، وأخذ طريق تجارتها لإجبارها على التخلي عن معاداتها للدعوة الإسلامية. ودراسة خطة النبي صلّى الله عليه وسلم في تلك الفترة تجاه قريش بالذات، تعتبر ذات أهمية كبيرة لدارس سيرة الرسول، وخط سير الدعوة الإسلامية، ومراحلها الرئيسية، وما تتميز به من حركية تلائم كل مرحلة، ففي مكة كانت الدعوة إلى الله بالحجة والإقناع والصبر على الأذى في سبيل الله. وفي المدينة- بعد الهجرة وقبل بدر- كانت مرحلة الاستعداد والاستكشاف والدراسة، والتلويح بالقوة أحيانا- لإعلام خصوم الدعوة الإسلامية- وقريش بالذات- أن القوة لم تكن أمرا مستبعدا عند الضرورة. فخير لها من الآن أن تذعن لله ولرسوله. ولما لم تفهم قريش، أو لم تحاول أن تفهم؛ أو قل: لم ترد أن تفهم، كانت الحرب الصريحة- منذ بدر- لتحطيم قوى البغي والعدوان والطغيان وتطهير الطريق أمام الدعوة منها، وفي كل المراحل لم تتوقف الدعوة بالحجة والإقناع؛ لأن هذا هو الأساس والقاعدة، أما الحرب فكانت الاستثناء؛ يلجأ إليه عند الضرورة، وهي لرد العدوان؛ وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة ١٩٠] .
[* النشاط العسكري الإسلامي قبل بدر:]
ظلّ النبي صلّى الله عليه وسلم أكثر من ستة شهور في المدينة بعد الهجرة قبل أن يقوم بأي نشاط عسكري، ورأيت أنه كان مشغولا في تلك الفترة بتأسيس الدولة الإسلامية وترتيب