بل كل ما يريده منهم أن يتركوا المسلمين يدعون إلى دينهم في حرية وأمان، ولكنهم لم يكونوا مستعدين نفسيّا لذلك، فهم كانوا منتصرين على الفرس آنذاك، وكانوا يعدون أنفسهم أسياد العالم، بعد أن قضوا على قوة منافسهم الوحيد على تلك السيادة، ولذلك تكرر اعتداؤهم على المسلمين في مطلع خلافة أبي بكر الصديق، بل قضوا على جيش بكامله من جيوش المسلمين التي كانت تقاتل المرتدين، بقيادة خالد بن سعيد بن العاص، ومن هنا بدأت الحرب، ولم تتوقف إلا عند جبال طوروس في شمال الشام، واستمرت الجيوش الإسلامية في فتح مصر وشمال أفريقيا، والقصة كلها معروفة، ولقد رأيت أن أنوه بتلك البداية للعلاقات الإسلامية البيزنطية، لنعرف موقف كل طرف ودوره ومسؤوليته، ورأيت أن هذا قد يكون مفيدا ونحن نحاول الكشف عن الجوانب المضيئة في تلك العلاقات، لنستفيد من تجارب التاريخ، بخيرها وشرها وحلوها ومرها.
[* العلاقات الإسلامية البيزنطية في العهدين الأموي والعباسي:]
استمرت الحروب متقطعة بين المسلمين والبيزنطيين بعد عصر الخلفاء الراشدين، لكن مع نهاية العصر الأموي وبداية العصر العباسي بدا واضحا أن الطرفين كليهما قد اقتنعا بأنه من الأفضل لهما ترتيب علاقاتهما على أساس الاحترام المتبادل ورعاية حقوق كل منهما لدى الآخر، ذلك أن تجارب الماضي قد علمتهم أن التعايش السلمي وتبادل المنافع أفضل كثيرا من الحروب وسفك الدماء.
والدليل على ذلك أن العلاقات بين أكبر دولتين في ذلك الزمان قد زخرت بكل أنواع النشاط الدبلوماسي الذي لا يقل عما تراعيه الدول في علاقاتها في وقتنا الحاضر، ومما يجدر التنويه عنه أن المسلمين والبيزنطيين قد أرسوا في تلك العصور الوسطى كثيرا من الأسس والقواعد والتقاليد الدبلوماسية الحقة في العلاقات الدولية، وتمثل ذلك في طريقة عقد معاهدات الصلح، وتبادل الوفود والمراسلات والهدايا، والبعثات العلمية، وحتى المجاملات كان لها مكان بارز في تاريخ العلاقات بين الدولتين، فكثيرا ما وصلت بعثات دبلوماسية ووفود من عاصمة إحدى الدولتين إلى عاصمة الدولة الآخرى للتهنئة بحدث كبير، كتولية خليفة أو إمبراطور، على سبيل المثال، كما كانت الدولتان تتعاونان في مجال المشاريع العمرانية، والتأثيرات المتبادلة