للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[مزايا دراسة البيان في صوغ مختلف الأساليب]

رأيت فيما سلف ألوانا مختلفة من التعبير وضروبا متنوعة من البيان, يستطيع المتكلم أن يجعلها قبلة أنظاره إذا أراد صياغة المعاني في القوالب التي يراها أليق بغرضه وأبلغ لمقصده، ويحوك بها ما شاء أن يحوكه من شريف المعاني التي تجيش بخاطره وتعلق بصدره, فإذا طرق باب المديح وأراد وصف ممدوحه بالكرم والجود أمكن أن ينحو نحو مسلم بن الوليد حين يمدح زيد بن مسلم الحنفي من وائل فقال:

ولو أن في كبد السماء فضيلة ... لسما لها زيد الجواد فنالا

يا زيد آل يزيد ذكرك سؤدد ... باق وقربك يطرد الإمحالا

نفحات كفك يا ذؤابة وائل ... تركت عليك الراغبين عيالا

فيؤدي المعنى على حقيقته دون مبالغة ولا إغراق، أو حين يمدح جعفر بن يحيى البرمكي فيقول:

تداعت خطوب الدهر عن جابر جعفر ... وأمسك أنفاس الرغائب سائله

هو البحر يغشى سرة الأرض سيبه ... وتدرك أطارف البلاد سواحله

فلو لم يكن في كفه غير روحه ... لجاد بها فليتق الله سائله

فهو قد شبهه بالبحر اللجي، يعم فيضه الآفاق، وتدرك سواحله أطراف البلاد, أو نحو أبي نواس وهو يمدح الخطيب:

أنت الخطيب وهذه مصر ... فتدفقا فكلاكما بحر

ويحق لي إذا صرت بينكما ... ألا يحل بساحتي فقر

فجعله كالبحر المتدفق الذي إذا حل ببلدة عمها الخصب وفارقها الجدب، أو نحو قول البحتري يمدح يوسف بن محمد:

أدراهم الأولى بداره جلجل ... سقاك الحيا روحاته وبواكره

وجاءك يحكي يوسف بن محمد ... فروتك رباه وجادك ماطره

إذ لم يشأ إلا أن يجعل الغيث يشبهه في فيضه، وبالغ في التشبيه، وافتن في الأسلوب، وعكس ما ألفه الناس من تشبيه الجواد بالغيث والبحر، ثم انظر إلى قول الآخر:

إذ ما رأيت رأيت البحر يبسط كفه ... فلا تخش إقلالا من الدهر أو عدما

فقد لجأ في وصف ممدوحه بالكرم إلى الاستعارة المصرحة وهي كما تعلم أبلغ من التشبيه وأعلى كعبا, لما فيها من دعوى الاتحاد بين المشبه والمشبه به، وقول أبي العتاهية:

للجود باب في الأنام ولم تزل ... يمناك مفتاحا لذاك الباب

فقد جعل للجود بابا مفتاحه في يد الممدوح اليمنى على سبيل الاستعارة المكنية وقول المتنبي في مدح كافور:

<<  <   >  >>