للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المصادفات تكون بعض الأضداد. وبهذا نلقي ضوءًا كافيًا لفهم ما يقوله بعض علماء اللغة القدامى: "إذا وقع الحرف على معنيين متضادين فالأصل لمعنى واحد، ثم تداخل الاثنان على جهة الاتساع، فمن ذلك: الصريم، يقال لليل صريم، وللنهار صريم؛ لأن الليل ينصرم من النهار، والنهار ينصرم من الليل؛ فأصل المعنيين من باب واحد وهو القطع، وكذلك الصارخ: المغيث، والصارخ: المستغيث، سميا بذلك لأن المغيث يصرخ بالإغاثة، والمستغيث يصرخ بالاستغاثة، فأصلهما من باب واحد.

وكذلك السدفة: الظلمة، والسدفة: الضوء، سميا بذلك لأن أصل السدفة الستر، فكأن النهار إذا أقبل ستر ضوؤه ظلمة الليل، وكأن الليل إذ أقبل سترت ظلمته ضوء النهار"١.

ويظل السياق هو الذي يعين الغرض من اللفظ، ويشعر بنوع العلاقة فيه سلبية كانت أم إيجابية، فالاشتراك بالتضاد كالاشتراك في التناظر لا يخفى مقصد المتكلم منه إذا وعى السامع نظم الجملة وأسلوب تركيب الكلام، فكلام العرب يصحح بعضه بعضًا، ويرتبط أوله بآخره، ولا يُعْرَف معنى الخطاب فيه إلا باستيفائه واستكمال جميع حروفه، فجاز وقوع اللفظة الواحدة على المعنيين المتضادين؛ لأنها تتقدمهما ويأتي بعدها ما يدل على خصوصية أحد المعنيين دون الآخر، فلا يراد بها في حال التكلم والإخبار إلا معنى واحد، فمن ذلك قول الشاعر:

كل شيء ما خلا الموت جَلَلْ ... والفتى يسعى ويلهيه الأمَلْ

فدل ما تقدم قبل "جلل" وتأخر بعده، على أن معناه كل شيء ما خلا الموت يسير، ولا يتوهم ذو عقل وتمييز أن الجلل هنا معناه عظيم٢.


١ المزهر ١/ ٤٠١.
٢ المزهر ١/ ٣٩٧-٣٩٨.

<<  <   >  >>