فما كان الإجماع ليعقد على أنها أجود الشعر لولا أن المحكّمين في عكاظ شهدوا لها بذلك, وأقر السامعون بتفوقها.
تلك مشاهد عامة مما كان يجري في عكاظ، وكأن العرب الذين عرضوا في هذه السوق متاجرهم وأموالهم وأنعامهم، وعرضوا فيها أدبهم وشعرهم، أبوا إلا أن يعرضوا بقية مقوماتهم, فرأينا مشاهد عن سياستهم وصلحهم وحربهم. ولو كان لعربي أن يصبر على ضيم قريب أو بعيد لصبر هؤلاء الجيران في هذه السوق العامة، ولكن طرح الخسف ورد الضيم في نفس العربي هو قبل التجارة والأدب، ورفع الذل عنده أهون وسائله إهراق الدماء وقطع وريد الحياة؛ لأنه لا يفقه عيشا بقيد ولا يتصور حياة بذل.
والظاهر أن احتفال الناس بعكاظ لم يكن واحدا دائما، فقد كان في بعض السنين يربي على الغاية في الازدحام والحركة، حتى تضيق السوق بمن فيها, وحتى يربح التاجر والجالب إليه ربحا عظيما لا يتأتى إلا في الفرط النادر. قال المرزوقي:"فلما دخلت سنة خمس وثلاثين من عام الفيل, حضر السوق من نزار واليمن ما لم يروا أنه حضر مثله في سائر السنين، فباع الناس ما كان معهم من إبل وبقر ونقد, وابتاعوا أمتعة مصر والعراق والشام ... ".