وفعل الخير، فيتجهم له هذا، ويعبس ذاك، ويجبهه ذلك ويحقره آخر ... فيلقى من الصد ألوانا يضيق ببعضها صدر الحليم، فلا يؤيسه ما لقي، ولا يكفه ما أوذي، فيمضي متئدا حزينا إلى قبيلة أخرى وشريف آخر, يعرض نفسه عليهم ويقول:"هل من رجل يحملني إلى قومه؟ فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي" فلا يجد مجيبا، حتى تدارك الله نبيه بوفد الأنصار.
هذا ما حفظته لنا كتب السير والأدب من مشاهد مؤثرة، فرأينا أن تلك الأسواق لم تخل من دعوة إلى خير؛ فقد تردد في أجوائها الصوت الضعيف الخافت، يطلب حماية وإجابة. ولئن صدف عنه الناس وازورّوا في أسواق الجاهلية فلقد ملأ هذا الصوت فيما بعد ما بين المشرق والمغرب، وطبق الخافقين بآثاره التي بثها في العالمين رحمة وعدلا وعلما وإنسانية وسعادة ومُثُلا عليا. وما زال يستجيب لهذا الصوت كل يوم، أفواج من أمم الحضارة والعرفان، في آسيا وأوروبا وأمريكا, وصد عنه قديما أجلاف البادين، وهرع إليه اليوم زمر المتحضرين من كل عالم ومخترع ومصلح وأديب وسياسي ومفكر يستضيء بعلمه وفكره الملايين من الخلائق.