عاما, ومصيبة شاملة، فكان الناس مشغولين بذوات أنفسهم عما سواها، فالسماء شحيحة ما تبضّ بقطرة، والأرض مجدبة ما تهتزّ عن خضرة، والموارد ناضبة لا تسعف، وأجزاء البلاد يُرْجى فيها السموم وتبث بينها العقارب، حتى خبطتها فتنة عمياء تنكّر فيها الساحلي للداخلي، وتجهّم العربي للعربي، رغم الدم الصارخ في عروقهما من الفرقة, الداعي لهما إلى الألفة والاتحاد. وغذّى هذا الشر أناس أقيموا ليهدوا الناس إلى الخير والأخوة والمحبة والسلام، فكانوا دعاة للشر وعمالا على الإفساد والتفريق والشفاء. وجعلوا من الدين الذي أنزله الله ليزيد الأواصر قوة والوشائج لحمة، ويفيض على القربى والرحم محبة ورحمة، وتعاونا وعطفا ... جعلوا من هذا الدين وسائل سافلة تستغل سذاجة العامي الغفل، وتموّه عليه السم بالدسم؛ ليسعى إلى حتفه بظلفه, ويقتل نفسه وأخاه معا.
بهذا اشتغل الناس يومئذ وحق لهم الشغل والتفكير في هذه القطيعة المجرمة، إذ متى عاش رأس بلا جسم وهل استغنى قلب عن وريد وشريان، وأين شرع الله للجارين من جنس واحد أن يعملا على شقائهما معا، ويسعيا إلى التعس السعي الحثيث، ويزجا بأعقابهما وذراريهما من بعدهما في العذاب الأليم والانقراض المحتم؟ ثم يعملان في أبدانهما سلاحا دسه العدو في أيديهما, وهو يتربص بكليهما الشر ليسود دارهما وحده لا شريك له١.
في غمرة هذه النزوات الطائشة، وفي شدة مقاومة المقيد الذي شعر أنه إنما يساق إلى الموت, وهو أشد ما يكون تعشقا للحياة وتمسكا
١ أما الآن في سنة ١٩٦٠ فقد أزال الله الأجنبي, فزال بزواله أكثر ما بذر من أسباب القطيعة وعاش الإخوان -كل في داره- جيرانا متحابين.