هذا الكتاب الذي تنحصر بحوثه بين عهد الجاهلية والقرن الثاني للهجرة. ولعل الله ييسر لي في المستقبل أن أصل هذا البحث عصرا فعصرا في أمصار العرب حتى عصرنا الحاضر.
ومن مارس التنقيب في مصادرنا العربية، القديمة منها خاصة، واطلع على ما تزخر به من كنوز مبعثرة هنا وهناك، لا تجمعها جامعة ما، عرف مقدار العنت والنصب اللذين يتعرض لهما الباحث، ولا سيما في موضوع كهذا لم يعالج بعد. وأنا أعفي القارئ من وصف ما لقيت من عناء, فما أريد أن أمن عليه وحسبي أن أكون في وجداني قد أبلغت نفسي عذرها.
وقد مهدت للكلام على الأسواق ببحوث رأيتها لازمة، وثيقة العلاقة بموضوعي كبيوع الجاهلية ورباها, وأسهبت في الكلام على قريش؛ لأنهم في الحقيقة هم عنوان الفريق التاجر من العرب, وحرصت كل الحرص أن أنقل القارئ إلى جو تلك الأسواق فيراها كما هي.
سيكون في هذه البحوث أدب جم, وتاريخ كثير كما فيها صناعة وتجارة، وستعرض فيها عادات العرب في أسواقها ومجالسها الأدبية وبلاغتها النثرية والشعرية، حتى النحو سيكون له بعض النصيب لأن إحدى الأسواق كانت تقصد من أجل مادة يستعين بها النحو في تنظيم قواعده وتبويب فصوله.
وبعض هذه الحوادث والأخبار والأشعار التي سأعرضها -وإن كان مظنة أنه مصنوع- قد اجتهد صانعه أن يقلد فيحسن التقليد ويحاكي الأصل فيحكم الحكاية، فإن شككنا في نسبة الخبر لم نشك أبدا فيما يدل عليه أو يستخلص منه. وذكرت من هذه الأحداث هنات جوزت لنفسي نقلها في هذا الكتاب مع تصريحها بما يحتشم منه؛ لأنها لا تتم الصورة