كنت في هذا الجو من الغبطة والذكرى والتأثر، لما عرضت في ذهني حلقات تاريخنا وأين انقطعت كل حلقة ومتى عهدنا بوصلها, فكان أول ما جال في خاطري وأنا في معرض دمشق وسوقها: أسواق العرب في الجاهلية والإسلام، وكيف كانت تزخر بالناس من تجار وصناع، وأدباء وشعراء وخطباء، وساسة وأشراف ...
عجبت لهذه الذكرى وقد أعاد هذا المعرض لنا أسواقنا -مع مراعاة الفارق بين الزمانين- وذكرت أن المجمع العلمي بدمشق -وكان إذ ذاك اسما على مسمى- سيقوم بمهرجان للمتنبي في آخر أسبوع من تموز، وقد اختار لهذا المهرجان مكان المعرض وزمانه، لتتم لنا صورة عن أسواق العرب ومحافلهم فيها. فكملت بهذا أداة هذه السوق العربية الكبرى بما سيلقى فيها من أدب وشعر وعلم، وبمن سيؤمها من العلماء والأدباء من المشرق والمغرب؛ عربا وأجانب ومستشرقين. وأصبح من كان يتمنى أن ينعم بمرأى عكاظ في الجاهلية, يستطيع أن يشهد عكاظ العرب في القرن العشرين، فينظر كيف انقلب الزمن وكم قطعت الحضارة بين العكاظين من أشواط.
ولعل القارئ أحس مما قدمت مقدار الحاجة إلى بحث يعرض لأسواق العرب وما كانت عليه في الجاهلية والإسلام، وما قامت به من عمل في خير العرب ولغتهم؛ ليقف على شأنها في تاريخنا ويستطيع أن يفاضل بين رسالتها قديما ورسالة المعارض حديثا. وما زالت هذه الأسواق تقتعد الذروة من اهتمام الأمم مذ كان اليونان وأولمبياهم وأعيادهم. وقد رغب إلي من أرضى رأيه أن أسد هذه الثلمة في المكتبة العربية, فعكفت على أمهات المصادر -وهي في موضوعنا هذا جد شحيحة- أنقب فيها وأفليها لأخلص منها بكل ما يفيدني في بحثي, حتى تمت لي مادة