للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ابن حزم الملل الأخرى، ورآها أضعف من أن تثبت للنقد الصحيح.

غير أن سيرة الرسول ليست جزءاً من النقل فحسب. بل هي صورة عليا من الكمال الإنساني، في نفس ابن حزم، ولذلك لا غرابة في أن يجعل منها موضوعه المحبب، وأن يحاول وضعها للناس وضعاً ميسراً قريباً واضحاً بين الحقائق. وإن الشخصاً يعتقد أن " من أراد خير الآخرة، وحكمة الدنيا، وعدل السيرة، والاحتواء على محاسن الأخلاق كلها، واستحقاق الفضائل بأسرها، فليقتد بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليعتمد أخلاقه وسيره ما أمكنه " (١) ... لا يسأل كثيراً عن البواعث التي تضاعف عنايته بالسيرة، وتحدوه إلى كتابتها من جديد.

بل الأمر يزيد على كل ما تقدم قوة ورسوخاً، حين نعلم أن سيرة الرسول عند ابتن حزم، دليل من الأدلة الساطعة على ثبوت نبوته. حقاً إن المعجزة من أدلة النبوة، ولكن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم معجزة تزيد في قوتها ودلالتها على سائر المعجزات المادية.

يقول ابن حزم: " إن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم لمن تدبرها تقتضي تصديقه ضرورةً، وتشهد له بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً، فلو لم تكن له معجزة غير سيرته صلى الله عليه وسلم لكفى " (٢) .

ويوضح أبو محمد رأيه هذا بالأمثلة، فيقول: " وذلك: أنه عليه السلام نشأ كما قلنا في بلاد الجهل، لا يقرأ ولا يكتب، ولا خرج عن تلك البلاد قط إلا خرجتين: إحداهما إلى الشام وهو صبي مع عمه إلى أول أرض الشام ورجع؛ والأخرى أيضاً إلى أول الشام، ولم يطل بها البقاء، ولا فارق قومه قط. ثم أوطأ الله تعالى رقاب العرب كلها، فلم تتغير نفسه، ولا حالت سيرته، إلى أن مات ودرعه مرهونة في شعيرٍ لقوت أهله أصواع ليست بالكثيرة ولم يبيت قط في ملكه دينار ولا درهم، وكان يأكل على الأرض


(١) من رسالته " مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق " - كبعة محمد أدهم الكتبي بمصر ص ١٣.
(٢) الفصل في الملل ٢: ٩٠.

<<  <   >  >>