في القياس وضبط القواعد النحوية، ذلك أن البصريين اشترطوا في الشواهد المستمد منها القياس أن تكون جارية على ألسنة العرب الفصحاء, وأن تكون كثيرة بحيث تمثل اللهجة الفصحى, وبحيث يمكن أن تُستنتج منها القاعدة المطردة. وبذلك أحكموا قواعد النحو وضبطوها ضبطا دقيقا، بحيث أصبحت علما واضح المعالم بيِّن الحدود والفصول. وجعلهم ذلك يرفضون ما شذ على قواعدهم ومقاييسهم لسبب طبيعي، وهو ما ينبغي للقواعد في العلوم من اطرادها وبسط سلطانها على الجزئيات المختلفة المندرجة فيها. ولم يقفوا عند حد الرفض أحيانا، إذ وصفوا بعض ما شذ على قواعدهم مما جرى على ألسنة بعض العرب بأنه غلط ولحن، وهم لا يقصدون اتهامهم بذلك حسب المدلول الظاهر للكلمتين، إنما يقصدون أنه شاذ على القياس الموضوع وخارج عليه فلا يلتفت إليه. وتوقف كثير من المعاصرين الذين يخوضون في المباحث النحوية عند هذين اللفظين, وحاولوا الرد على البصريين غير متنبهين لمدلول الكلمتين عندهم ومقصدهم منهما. وكل من يعرف كيف توضع القواعد في العلوم يدرك دقة البصريين في وضعهم لقواعد النحو والتمكين لما ينبغي لها من صحة وسلامة وسداد، بحيث يطرد سلطانها وينبسط على جميع الألسنة، وبحيث تصبح هي المتحكمة إزاء جميع العيون وتجاه جميع الأسماع، وبحيث لا يفسدها شذوذ قد يندّ على بعض الأفواه.
وقد وقف الكوفيون من هذا البناء العلمي المحكم موقفا يدل على نقص فهمهم لما ينبغي للقواعد العلمية من سلامة واطراد، إذ اعتدوا بأقوال وأشعار المتحضرين من العرب، كما اعتدوا بالأشعار والأقوال الشاذة التي سمعوها على ألسنة الفصحاء، مما خرج على قواعد البصريين وأقيستهم ومما نعتوه بالخطأ والغلط. ولم يكتفوا بذلك, فقد حاولوا أن يقيسوا عليها وقاسوا كثيرا، مما أحدث اختلاطا وتشويشا في نحوهم، لما أدخلوه على القواعد الكلية العامة من قواعد فرعية قد تنقضها نقضا، مع ما يئول إليه ذلك من خلل في القواعد وخلل في الأذهان، بحيث لا تستطيع فهم ذلك إلا بأن يُعكَس عليها مرارا وتكرارا؛ لاختلاط القواعد وتضاربها، وأحس ذلك القدماء في وضوح فقالوا: "لو سمع الكوفيون بيتا واحدا