للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أعرف كتابا يعلم دقة الحس اللغوي على نحو ما يعلمها كتاب سيبويه، بحيث لا أغلو إذا قلت: إنه يلقن قارئه سليقة العربية, والحس بها حسا دقيقا مرهفا, والشعور بها شعورا رقيقا حادا.

ونحن نخلص من ذلك كله إلى أن المدرسة الكوفية توسعت في الرواية وفي القياس توسعا جعل البصرة أصح قياسا منها؛ لأنها لم تقس على الشواذ النادرة في العربية وطلبت في قواعدها الاطراد والعموم والشمول، كما جعلها أكثر تحريا منها للرواية عن الأعراب وأكثر تثبتا؛ لأنها لم ترو إلا عمن خلصت عربيتهم من شوائب التحضر، ولم تفسد طبائعهم بل ظلت مصفاة منقاة، ولا فسدت ألسنتهم، بل ظلت تجري على عرق العروبة الأصيل وإرثها القديم.

والحق أن المدرسة البصرية كانت أدق حسا من المدرسة الكوفية في الفقه بدقائق العربية وأسرارها, فقد تعمقت ظواهرها وقواعدها النحوية والصرفية تعمقا أتاح لها أن تضع نحوها وضعا سديدا قويما، بل لقد بلغ من تعمقها أن أخذت تصحح ما ندَّ عن بعض الشعراء عن طريق التأويل والتخريج والتحليل الدقيق البصير، لا على أسس عقلية فحسب، بل أيضا على أسس سليقية، مما سال في فِطَر عباقرتها من أمثال الخليل واضع العروض, وسيبويه مشرع النحو وصائغ قواعده وقوانينه.

ويكفي أن نرجع إلى الكتاب ونقرأ فيه تحليلات هذين العَلَمين البصريين؛ لنرى كيف تمثلا العربية تمثلا رائعا، وكيف كانا يتذوقان صياغاتها تذوقا بارعا. والكتاب يزخر بملاحظاتهما التي لا تقف عند الإحاطة بالخصائص اللغوية والنحوية، بل تمتد أيضا إلى الخصائص البيانية والأدبية مع ما يتناثر في أثناء ذلك من خواطر ما كانت لترد لهما على بال, لو لم يكونا قد استوعبا طبيعة اللغة وأتقنا العلم بجواهرها وأعراضها وخفاياها وظواهرها إتقانا يبلغ حد الكمال. وكل من يحاول أن يرفع أحدا من معاصريهما عليهما في البصر بالعربية وتذوقها والحس بها يكون مجانبا للصواب، بل متورطا في خطأ عظيم.

وينبغي أن نعرف أن الكوفيين لم يقفوا بقياسهم عند ما سمعوه ممن فسدت سلائقهم من أعراب المدن, أو ما شذ على ألسنة بعض أعراب البدو،

<<  <   >  >>