فلما جلس قال له: كيف تقول: "خرجت, فإذا زيد قائم"؟ فنطق بها سيبويه، فقال له الكسائي: أيجوز: "فإذا زيد قائما"؟ فقال سيبويه: لا؛ لأن العرب الفصحاء الذين أخذ عنهم هو وأستاذه الخليل لا ينطقون مثل "قائما" في هذا المثال ونحوه إلا مرفوعة، وفي القرآن الكريم:{فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ} , {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ} أي: على أن ما بعد إذا في هذه الأمثلة مبتدأ وخبر مرفوعان. وأظهر الكسائي تعجبه من رفضه لنصب كلمة "قائم", وقال: فلنرجع إلى من يحضرنا من العرب، وكانوا من عرب الحطمة كما ذكرنا، وسألهم: كيف تقولون: "قد كنت أحسب أن العقرب أشد لسعة من الزنبور, فإذا الزنبور إياها"؟ فقال نفر منهم:"فإذا الزنبور هي", وقال آخرون:"فإذا الزنبور إياها". ويبالغ رواة هذه المناظرة، فيقولون: إن سيبويه حصر وأفحم، وفي رأينا أنه لم يفحم ولم يحصر، لأنه كان لا يعتد بما قد يفد على ألسنة مثل هؤلاء العرب المتحضرين، مما يخالف استخدام الفصحاء ويشذ على القياس المبني على استعمالهم وما يدور في ألسنتهم. والمهم أن هذه المناظرة أرست أصلا من أصول المدرسة الكوفية، وهو الأخذ باللغات الشاذة المخالفة للأقيسة البصرية من جهة وللشائع المتداول على أفواه العرب من جهة ثانية.
ومن المؤكد أن هذه المناظرة أقنعت الكسائي بأن ما بيده من النحو وقوعده قليل وأنه ينبغي أن يتزود من نحاة البصرة وعلمهم الغزير، وتصادف أن توفي سيبويه عقب المناظرة، غير أنه علم أن الأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة حمل كتابه النفيس عنه، وأنه يمليه على الطلاب ويدرسه لهم، وأنه إليه انتهى علم البصرة بالنحو، ولم تُعْيه الأسباب في الاتصال به ورواية الكتاب عنه. ووجده يكثر من الخلاف على صاحبه وعلى الخليل مستضيئا بمعرفته الواسعة بلغات العرب، فاستقر في نفسه أن يتابعه في هذا الاتجاه، وبذلك أعده الأخفش إعدادا حسنا لكي ينمي رغبته الملحة في مخالفة النحو البصري مخالفة تقوم على الاتساع في الرواية والقياس، بل لقد نفذ إلى تأسيس مدرسة نحوية جديدة، يعينه في ذلك تلاميذه وخاصة الفراء.
والحق أن الأخفش لم يبعث هذا الاتجاه في نفسه لأول مرة، فقد كان