للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولعله أول من فتح في الإعراب ما يمكن أن نسميه بالاحتمالات، إذ نراه يعرض في كثير من الأمثلة وجوها مختلفة لإعرابها، وتتضح آثار ذلك في مواضع من الكتاب، على نحو ما يلقانا في باب النعت، إذا كان في تعظيم أو مدح أو ذم، فقد كان يجيز فيه الإتباع لسابقه، والقطع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أو مفعولا به لفعل محذوف١، ونقل عنه سيبويه في قولهم: "هذا رجلُ صدق معروف صلاحه" أنه يجوز في كلمة "معروف" أن تكون نعتا لرجل، وأن تكون حالا منصوبة كأن كلمة رجل نالها شيء من التعريف بإضافتها إلى صدق، وجوز أن تكون خبرا مقدما لكلمة "صلاحه"٢. ومن يقرأ توابع المنادى في سيبويه يلاحظ توا أنه هو الذي ردَّد الرفع والنصب في بعض أمثلة هذه التوابع كالنعت مثلا, فقد جوز فيه أن يقال: "يا زيد الطويلُ والطويلَ" بالضم والنصب، أي: حملا على ظاهر المنادى أو على محله. وكذلك الشأن في التوكيد مثل: "يا تميم أجمعون أو أجمعين"، ونكتفي بهذه القطعة من كلام سيبويه: قال الخليل: "إذا قلت: يا هذا وأنت تريد أن تقف عليه ثم تؤكده باسم يكون عطفا عليه, فأنت فيه بالخيار؛ إن شئت نصبت وإن شئت رفعت, وذلك قولك: يا هذا زيدٌ, وإن شئت قلت: زيدا، يصير كقولك: يا تميم أجمعون وأجمعين، وكذلك يا هذان: زيد وعمرو، وإن شئت قلت: زيدا وعمرا، فتُجري ما يكون عطفا "أي: تابعا" على الاسم مجرى ما يكون وصفا، نحو قولك: يا زيد الطويلُ ويا زيد الطويلَ"٣.

وعلى هذا النحو, كان الخليل يُكثر من الاحتمالات في وجوه الإعراب للصيغ والألفاظ والعبارات كما كان يكثر من التأويل والتخريج حين يصطدم ببعض القواعد التي يستظهرها، وهو في تضاعيف ذلك يحلّل الألفاظ والكلام تحليلا يعينه على ما يريد من توجيه الإعراب ومن التأويل والتفسير، ومن طريف تفسيراته ما ذكره سيبويه من أنه سأله عن قوله جل وعز: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} , فإن ظاهر العبارة أن غير الله منصوبة بتأمروني، وفي ذلك فساد


١ انظر الكتاب ١/ ٢٤٨ وما بعدها.
٢ الكتاب ١/ ٢٦٣.
٣ الكتاب ١/ ٣٠٧.

<<  <   >  >>