ولم تذكر كتب التراجم أنه رحل إلى البادية في طلب اللغة والسماع عن العرب ومشافهتهم، غير أن ما يتردد في كتابه من مثل قوله:"سمعنا بعض العرب يقول", و"سمعنا العرب تنشد هذا الشعر", و"سمعنا من العرب", وهو "كثير في جميع لغات العرب", و"عربي كثير", و"عربي جيد", و"قد سمعناهم", و"قال قوم من العرب ترضى عربيتهم", و"سمعنا من العرب من يوثق بعربيته" يدل -في رأينا- على أنه رحل إلى بوادي نجد والحجاز مثل أستاذه الخليل. والكتاب يفيض بسيول من أقوال العرب وأشعارهم، لا يرويها عن شيوخه، وهي بدورها تؤكد، بل تحتِّم, أنه رحل إلى ينابيع اللغة والنحو يستمد منها مادة وعتادا فصيحا صحيحا بشاراته في النطق وهيئاته.
ولما توفي الخليل خلفه -على ما يظهر- في حلقته، إذ نجد كتب طبقات النحاة تنص على طائفة من تلاميذه مثل الأخفش الأوسط وقطرب، وأكبّ حينئذ على تصنيف الكتاب، وسرعان ما أخذ نجمه يتألق لا في البصرة دار النحو فحسب، بل أيضا في بغداد، ورحل إليها طامحا إلى الشهرة في حاضرة الدولة، وحدث أن التقى بالكسائي مقرئ الكوفة ومؤدب الأمين بن الرشيد، وكان ذلك في دار يحيى البرمكي، وقيل: بل في دار الرشيد، ويقال: إنه لقيه قبل الكسائي بعض أصحابه: الأحمر وهشام والفراء ليوهنوا منه. ولم يلبث صاحبهم أن تعرض له بالسؤال في المسألة الزنبورية، إذ قال له: كيف تقول: "قد كنت أظن أن العقرب أشدُّ لسعةً من الزنبور, فإذا هو هي أو فإذا هو إياها؟ " فقال سيبويه: فإذا هو هي، ولا يجوز النصب. قال الكسائي: لحنت، العرب ترفع ذلك كله وتنصبه. فدفع سيبويه قوله، وطال بينهما الجدال، وكان بالباب نفر من عرب الحطمة النازلين ببغداد، ممن ليسوا في درجة عالية من الفصاحة، فطلب الكسائي سؤالهم، ولما سُئلوا تابعوه في رأيه. فانكسر سيبويه كما يقول الرواة، وإن كنا نتهم قولهم؛ لأن الحق كان في جانبه؛ لما يقتضيه القياس في هذا الموضع، ولأنه يطرد الرفع فيه في آي الذكر الحكيم من مثل:{وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} , {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} , {فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} , وكأنها هي وما بعدها مبتدأ وخبر. أما النصب فيكون على الحالية