دون توقف، ومن هناك إلى الهند رأسًا ودون وساطة العرب، ولكنه أصناف إلى ذلك أمرًا آخر وهو أن العرب ظلوا من أغنى الأمم لتدفق الثروة من روما وبارثيا إليهم وتكدسها بين أيديهم. فهم يبيعون ما يحصلون عليه من (تجارة) البحر ومن (إنتاج) غاباتهم ولا يشترون شيئًا في مقابله. وذكر أن السبأيين كانوا أعظم القبائل ثراء بما تنتجه غاباتهم من البخور، وما يملكونه من مناجم الذهب، وما يوجد عندهم من الأراضي الزراعية. وما ينتجونه من الحبوب والكروم والعسل .... إلخ.
وفي تصويره لمدى استهلاك العالم الخارجي لمنتجات جنوب شبه الجزيرة، روى بليني أن جنازة poppaea في روما قد استنفذت ما يساوي الإنتاج السنوي للعربية السعيدة. وروى أنه ترتب على ازدياد استهلاك البخور والصموغ في أيامه، أن أصبح الصمغ يجمع مرتين في العام دون أن يترك التجار الوقت الكافي لسيقانه لكي تنضج.
وهكذا يبدو أن تجار الإغريق والرومان وإن سيطروا على أغلب تجارة الهند في المحيط الهندي والبحر الأحمر. فقد ظل العرب ينتفعون ببيعها ويقومون بنقل منتجاتهم الخاصة من البخور والصموغ ومشتقاتها بقوافل الإبل ويعملون على تصريفها ويجنون أرباحها. وهو أمرلم ينتفع به الجنوبيون وحدهم، وإنما انتفع به العرب الشماليون أيضًا لفترات طويلة مما سنعود إلى ذكره فيما بعد.
بل إن السفن الإغريقية والرومانية وإن عرفت الطريق البحري القصير المباشر إلى الهند، إلا أنها ظلت تلجأ إلى الموانئ العربية من حين إلى آخر للإتجار معها مباشرة، أو للراحة فيها والتزود منها بالماء والزاد خلال رحلاتها الطويلة إلى سواحل الهند وعودتها منها. بل وظلت تسمح لبعض السفن العربية بالاشتراك معها في التجارة، وذلك مما يعني أنها لو تقاطعها جملة ولم تحرمها من التجارة جملة. وقد كان للحميريين على ساحل البحر الأحمر وساحل البحر العربي أسطول تجاري ضخم لا يمكن تجاهله.
وأدت هذه الأوضاع إلى أن ورد في كتاب الطواف حول البحر الإريتري Periplus Maris Erythrael من حديثه عن جنوب شبه الجزيرة في حوالي عام ٢٢٠م، ما سبق أن استشهدنا به منه عن ازدهار ميناء قنأ الحضرمية، وتجارتها الواسعة من عمان وبارثيا والهند. وقد ذكر نفس الأمر عن ميناء موزا (موشج أو المخا) فقال إنها ميناء عامرة دائمًا بأصحاب السفن والملاحين العرب وفي شغل شاغل بشئون التجارة، ويتعامل أهلها مع الساحل البعيد (الأفريقي؟) ومع بريجازا (في حوض السند) ويرسلون سفنهم إليهما.